تعددت صور معاناة العلماء ما بين الفقر ومشقّة السفر والغربة.. ورغم ذلك فقصص علماء الحضارة الإسلامية في استغلال أوقاتهم تعد نوادر غريبة، لم نكن لنصدقها لولا تواترها، فكيف استطاعوا ؟
لعل الاهتمام بالثقافة والمطالعة ليس من أولويات أولئك الذين يجدون ضالتهم في التفاهات، إذ إنهم يحتاجون إلى ثقافة تشجع على الثقافة، أو بالأحرى إنهم في أمس الحاجة إلى الجرأة على التفكير واستخدام العقل، ومن المؤسف أن نُدرج عالمهم الثالث في إطار ما يسمى بالحضارة، وما هذا العالم الثالث إلا نسخة مزورة عن الحضارة، ولا تمثلها بتاتا، وإن كانت تمثلها فهي ليست أكثر من حضارة في أبشع صورها، ذلك أنه لا يمكن الحديث عن الحضارة بعيدا عن الوعي بكل تجلياته، وما عدا ذلك ليس سوى تمثلات لعالم يعيش في التخلف ويدّعي العكس.
لقد حاول الغرب لعقود بناء الإنسان، وقد تمكنوا من ذلك، وأصبحنا نرى كل هذا التقدم الذي يلاحقهم، وفي المقابل يسيطر التخلف على مجتمعاتنا، لأننا لم نتمكن بعد من بناء الإنسان، وتلك مسألة صعبة، ومن خلال الواقع يبدو مستبعدا أمر بناء هذا الإنسان، ذلك أن هندسة البناء في حاجة إلى هندسة، ومن تم يصبح أمر بناء الإنسان بعيدا عن التحقيق في واقع يجعل من الإنسان وسيلة لغايات تافهة.

كان حريا أن نجعل من الإنسان غاية، وذلك من أجل أن نرقى بهذا الكائن، لكن مجتمعاتنا تعطي الأولوية لمسائل أخرى لا تستحق كل ذلك الاهتمام، ولقد صدق كارل ماركس لما اعتبر الدين أفيونا للشعوب، ومن الواضح أن ذلك ينطبق على مجتمعاتنا، إذ إنهم جعلوا من الدين غاية، والإنسان وسيلة، فكان طبيعيا أن نرى الواقع ينظر إلى الإنسان نظرة استغلالية، بينما يضع مسائل الدين بأخطائها وهفواتها في المرتبة الأولى، هذه المرتبة كان جديرا أن يحتلها الإنسان، لكن ويا أسفاه على واقع ومجتمع متخلف.
لقد أخد الدين تلك المكانة التي كان من المفترض أن يحتلها الإنسان، وبسبب هذه النقطة فاض الكأس، فانقلبت الكفة، وتحول بموجبها الإنسان إلى وسيلة بدل أن يكون غاية، كل ذلك ساهم في هذا التخلف الذي يعشش في مجتمعاتنا، ومن تم أصبحت للدين وظيفة غير تلك التي جاء من أجلها، فأضحى مُحددا لكل ما يجب أن يكون، وكان حريا أن نتعامل معه بفردانية ليصبح علاقة بين الفرد وربه، وليس مسألة مجتمعية ننظر من خلاله إلى الأفعال، ونحاسب من خلاله الأفراد على الأخطاء، ويا ليتنا لا نتدخل في تديّن الأفراد، وندعهم يتحملون عواقب أفعالهم واختياراتهم، وفي ذلك معنى حقيقي للإيمان، وكما قال أحمد عصيد: لا معنى للإيمان بدون حرية الاختيار.
عندما نجبر الأفراد على اعتناق شيء ما، لن يكون هناك معنى لإيمانهم ولاعتقاداتهم، إذ إن الاعتقاد الذي لا ترافقه الحرية يمكن أن يصبح اعتقادا مزورا، وهذا ينطبق على التديّن في مجتمعاتنا، ويبدو واضحا أن التدين لدينا مسألة وراثية، وهذا ما أدى إلى كل هذا النفاق الذي يمارسه الأفراد دينيا واجتماعيا، وأدى كذلك إلى عدم اتباع تعاليم الدين كما ينبغي ووفقا لصوت العقل والضمير.
عندما يتوهم مجتمع عكس حقيقته فتلك طامة كبرى، ذلك أنه سيعتقد أنه في الطريق الصحيح، وما ذلك الطريق إلا طريقا نحو المزيد من التخلف، هذا هو حال مجتمعاتنا مع الأسف، حيث تجد الأفراد منغمسين في الجهل، ولا يكترثون لمسألة الخروج منه، فظلوا بذلك قاصرين حسب إيمانويل كانط، معتقدين أنهم يسايرون الحضارة في تقدمها ورقيها، لكنهم ما انفكوا يسايرونها بالعكس نحو الاتجاه الآخر، الاتجاه الذي انسحبت منه الحضارة منذ أن قررت أن تبدأ، لقد بدا واضحا أن الطريق الذي تسلكه مجتمعاتنا سائر نحو المزيد من التخلف والجهل، والانحلال الأخلاقي الذي يعتبرونه حرية فردية، ذلك أن المفاهيم اختلطت لديهم، فأصبحوا يفسرون كل مفهوم حسب رغباتهم، ويكفي أن تدخل إلى العوالم الافتراضية لعينات من المجتمع، لتتأكد أن موضوع المقال يوضح الحقيقة المرة لواقعنا.