لا يجذبني الحديث في المواضيع السياسية، ربما لأنني متوجس من فكرة الفناء.. والأحداث السياسية فانية لا تدوم وكل يوم هي في شأن، لذلك دعوني أتحدث عن أشياءَ فيها مسٌّ من طيف الخلود.. كنظرة صادقة وقُبلةٍ دافئة ودماءِ شهيد ساخنة وعمرِ أسيرٍ التهمه السجن الموحش، دعوني أتحدث عن صورة التقطتها قلوبنا للقدس الشريف وهي تلوح بيديها للحرية.
من شوراعها العتيقة المرصوفة بدماء الفاتحين، من الدروب التي سلكها المسيح (عليه السلام) يوما ما، من الصخرة التي تشرفت بحمل النبي محمد -عليه وعلى آله الصلاة والسلام- إلى السماوات العلا من أقرب نقطة تماس بين الأرض والسماء، من كنيسة القيامة المقدسة والمسجد الأقصى المبارك وحي الشيخ جراح الصابر وجبل المكبر العالي.. من كل هذا الجلال القدسي يهمس صوتُ المحبة في آذاننا أن مفاتيح المملكة المقدسة مخبأة في قلوبنا فمتى ملأناها محبة وصدقًا سلّمتنا إياها، وهنا وجب السؤال، هل ملأنا قلوبنا بالمحبة؟ أم ملأها أعداؤنا وأنفسُنا الأمارة بالكراهية والتعصب للمذهب والحزب والطائفة؟
كلنا نعلم قصة فتح القدس في عهد الفاروق عمر -رضي الله عنه- ونعلم أن بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في بيت المقدس صفرونيوس طلب حضور الخليفة شخصيًا لاستلام مفاتيح المدينة وتخليصها من ظلم البيزنطيين، كيف استطاع أجدادنا وقتها تحرير القدس؟ الإجابة عن هذا السؤال في طريقة قدوم الخليفة لاستلام مقاليد الحكم في مملكة السماء.. لقد جاء قائد الجيوش الآمر الناهي هازم الفرس والروم بلا موكب حراسة وبلا تشريفات، جاء برفقة مرافقه وراحلة وحيدة، فمرةً يركب عليها ويحدوها مرافقُه ومرة يركب مرافقه عليها ويحدوها هو.. ولما وصل حدود المملكة رأى الناس رجلين بلباس عادي غير ظانين على الإطلاق أن أحدهما خليفة تأتمر بأمره الإمبراطوريات والدول.. فما أن وصل وعُرفَ حتى تسلل إلى قلوب الجميع يقين قاطع بأن أمة هذا الرجل أحق الأمم بحفظ المملكة المقدسة وحمايتها من الشيطان.

أدرك تماما أننا مللنا من الخطب والكلمات الإنشائية التي تدغدغ عواطفنا التاريخية، ونحن على حق في هذا.. لكن علينا الانتباه إذ إننا نفعل هذا فإننا نرى الحل الواضح لمشكلاتنا الكارثية التي لم يكن ضياعُ القدس أولها و لن يكون آخرَها، حين سردت قصة فتح القدس لم أرد أن أذكر قصة تاريخية نحفظها جميعا، بل كنت أود أن نقيم ميزان المقارنة بين ما كنا عليه بالأمس وما نحن عليه اليوم! بالتأكيد لن تكون لنا أحقيةُ حفظ مملكة السماء والمسؤولون عندنا يتجولون في شوارع مدننا العربية بمئات الحراس حتى أنه إذا مر أحدهم في تقاطع طرق سبب أزمة مرورية خانقة.

لمن يخشى من تبعات قرار الأمريكان نقول له: قبل أشهر عديدة حصلت بعض التوترات الأمنية في محيط المسجد الأقصى المبارك، وقررت الهمجية "الإسرائيلية" وضع بوابات إلكترونية على حدوده لتفتيش المصلين، وهذا ما رفضه المقدسيون الذين باتوا في العراء أياما وليال منتفضين إلى أن كُسرت هيبة المحتل وبواباته ودخل أهل القدس مسجدهم مكبرين، يا إخوتي وأشقائي في الأمة العربية الإسلامية لا تخشوا على القدس فإن الله اصطفى لها عبادا جبارين على الألم أولي صبرٍ أيوبي، وقرار أمريكا الغاشم بنقل سفارتها لدى دولة الاحتلال إلى القدس ليس إلا هراءً لا وزن له.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.