شعار قسم مدونات

لو آمنت بالله!

Blogs- alone
"الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود" 
(عبد الرحمن السيوطي، الأشباه والنظائر، القاعدة 34).
 
لو أنّنا على يقين بأن قاعدة الهرم، المدرّج بسبع درجات، تحمل في محيطها تسعا وأربعين حجرا، فإن ستة وثلاثين مكعبا آخرين سيُوضعون فوقهم بلا ارتياب، وكذا فالخمسة والعشرون اللاحقون سيسكنون في دورهم بلا اهتزاز.. وهكذا.
  

مَن يسبق مَن؟
لا نختلف إذن في أن البناء يمضي على تتابع وأن النتائج تأتي لمُقدمات: إذا تدرّجت في السؤال الأعظم فإنك ستمضي إلى القاعدة قبل البحث في التتابعات. لا يُبنى الهرم من المنتصف إذن، ولا يُقطع الطريق من اللامكان. فقبل السؤال عن الحركة ستسأل عن قوانين نيوتن، وقبل إعراب الكلمة ستبحث عند سيبويه، لذا؛ ولأن لكل نتيجة مقدمة، فإن السؤال عن الدين لا يُبنى من مجالس الفقه وإنما يأتي من أصل الاعتقاد، أي أن البحث الفقهي بعد الاعتقاد السليم سيختلف كليًا، وجزئيًا، عن البحث الفقهي مع اعتلال اليقين، فأنت بعد الإيمان تنطلق وراء الإشكالات التي تشتبه عليك؛ لتعي الحكمة لا لتناطح ما تدنوه، لذا، وبمنتهى البساطة، فلن تجد غضاضة في التسليم بصواب الأمر حتى لو كنت لا تفهمه؛ لأنك آمنت، بادئ ذي بدء، بأن من يفرض عليك هذا إله حكيم. أما من بحث عن الشُبهة بيقين رخو، أو اعتقاد لا يقوم، فإنه فاقد للمركز، يدور حول اللاشيء، ويبحث عما يرضي عقله لا ما يشرح الحقيقة، ومن ثم فهو خاضع للنسبيات، ودائر في اللافلك: اليوم أقتنع، وغدا أشك، وبعد الغد أنكر، وبعد ذاك أعود.. هائم لا يحكمه إطار، وهاو لا معيار لديه.

 
فالفارق بين الاثنين كائن في مركزية الانطلاق، ومؤثّر في مصير الجواب. فالباحث عن الحقيقة يبحث عن مفهوم ينبغي له التشريح وفهم دلالته. الحقيقة هي شيء ثابت/مُطلق/ لا يتغيّر بدوران الزمن أو اختلاف المكان، لذا فإن الإجابة عنها لن تصح حتى تصدر إلينا من مصدر ثابت/مطلق/لا يتغير بدوره باختلاف الظروف. ومن ثم فإن السؤال عن حكمة الحجاب، مثلًا، ومهما كانت الإجابة مقنعة، سيبقى سؤالا خاطئا لمن يريد اليقين؛ لأن الحجاب هنا لم يُشرع نفسه، وإنما فرضه الله، لذا فإن الإجابة الأولى ستكون: هو أمر الله. هنا نضع المركز ومن بعده ننطلق خلف الأسباب والتفسيرات التي ستختلف، بالنقص أو الزيادة، بين العقول والأفهام، فما سأراها حكمة بالغة ستراها أنت ناقصة لتكملها بتفسير آخر يزيد عليه غيرك… وهكذا دواليك.
  

لو آمنت بالله لما هدمت دينه، في قلبك، من المنتصف، وإنما ستبني جسوره بين عقلك وقلبك من القاعدة؛ لتؤسّس فوق اليقين طاعتك، وتضع الترتيب في تدرجه السليم
لو آمنت بالله لما هدمت دينه، في قلبك، من المنتصف، وإنما ستبني جسوره بين عقلك وقلبك من القاعدة؛ لتؤسّس فوق اليقين طاعتك، وتضع الترتيب في تدرجه السليم
  

"هو أمر الله" تضع السؤال في مقامه الصحيح، فلو آمنا بالله سلمنا بحاكميته على عباده، ومن ثم، كان الانشغال بالشبهة، أو الحكمة في أفضل الأحوال، قبل الإيمان بالتسليم التام هو انشغال بالنافلة عن الفرض، وهو منطق لا يقيمه عقل بطبيعة الحال. نعم، يزيد التدبّر من الإيمان، ولكنّه لا يغني عن العلم الذي يُقدم الحقيقة، فيخلق الإقناع ويغرس التسليم، ليخرج المتأمل من أرض رواها اليقين وأنبتها العلم، فيبني على قاعدة الهرم التي استوعبت الأحجار التسعة والأربعين.
  

لكن ما هو السؤال؟
دعنا نناقش الأمر بتبسيط شديد: أنا الإنسان رقم (1)، وأنت رقم (2)، وهو حامل الرقم (3). سنضع الآن على طاولتنا المستديرة ورقة تحمل هذا السؤال: ماذا بعد الموت؟ وبعد ساعات من المناقشات العلمية سنخلص إلى أنه لا شيء يأتينا من أينشتاين أو دوكينز يشرح لنا ما بعد الموت بنظرية ثابتة وقوانين تحج سؤالنا فتغلبه. هنا عجز المادي/الشاهد (العلم) عن سؤال المعنوي/الغيبي، ومن ثم سنُجلسه بالجوار ونبدأ التفسيرات.

  
سأرى أنا تفسيرا فلسفيا يرتضيه عقلي، بينما ستخالفه أنت؛ لأن عقلك لا يرتضيه، وهو الأمر الذي سيتكرر مع زملينا الثالث الذي لا يهديه أي من التفسيرين. أين تكمن المشكلة؟ لنقرأ السؤال من جديد: "ماذا بعد الموت؟"، ثم نفككه بكل تبسيط: الموت أمر غيبي لم يهتد إلى مصير صاحبه العلم، وكذا لم يذهب إليه عائد أخبرنا بما كان هناك. ولما كان الغيب لا يشهده العلم، وكذا تختلف في تفسيره العقول النسبية، كانت الإجابة الثابتة (الحقيقية) بحاجة لمصدر آخر متفوق على العلم، وحاكم على هذه العقول بإدراك أعظم وإحاطة شاملة، وهنا يظهر الدين.
  

اليهودية التي تنكر الخلود وتبحث عن أرض الميعاد، والمسيحية التي تؤمن بالملكوت وتدع ما لقيصر، عاجزتين عن احتواء الإنسان بروحه وعقله

لماذا يظهر الدين؟

الدين هو الإجابة الثابتة التي تحكم البشر في كل ما عجز عنه إدراكهم؛ لأنه –وحسب المسيري- فإن الإله الفوقي لا بد وأن يكون محيطا بالعالم التحتي؛ لذا فهو قادر على كل ما نعجز عنه، وعالم بكل ما يقصر عنه إدراكنا. ولما كانت الأسئلة الغيبية/الميتافيزيقية لا تنتهي حول حقيقة الوجود وغايته ومآله ومنتهاه، كانت الإجابة عنها تحتاج مصدرا ثابتا عالما بهذه الحقائق، ولما كان العلم –بوصفه الثابت المادي- أعجز من إدراك الإجابة، كانت الحاجة إلى ثابت معنوي متحققة ليضع الإجابة عن كل غيب لا يلمسه العلم ولا يدركه البشر؛ حتى لا تختلف العقول فتتوه الحقيقة وينهار الكون في العبث وتحكمه الفوضى.
  
إذن هذا هو السؤال الأول: من يشرح لنا الغيب وغاية الوجود؟ فإذا كان الله هو الحق الأول الذي يحفظ هذا الكون في ناموسه من الانهيار، أو كما قال ديستوفيسكي، على لسان إيفان في الأخوة كارامازوف: "إذا لم يكن الله موجودا، فإن كل شيء مُباح، وكان دينه هو الحق الثاني الذي يشرح لنا من خلاله كل هذا، كان الأنبياء هم الحقيقة الثالثة التي تصل السماء بالأرض؛ ليتزن المادي بالمعنوي، ويجيب النبي عن كل ما عجز عنه العالم، ويسبر الدين غوار الفضاء الذي غرق في سرمديته العلم.
  
هكذا إذن تنبني العقيدة: الله حق، ورسالته منه، والنبي رسوله. فلو مررنا بعدها على الإسلام وشخص النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- لنطبق هذه القاعدة، لوجدنا بيجوفيتش على قارعة الطريق يخبرنا أن الإسلام يزن عالمي الإنسان المادي والمعنوي، فلا يمكنه ممارسة الإسلام على حقيقته (المعنوية) إلا من خلال الإعمار في الدنيا وتوطيد قوة المسلمين (المادية) لتنشر رسالته، وكذا فهو يضع الحافز الدنيوي عن طريق الحافز الأخروي، فكل تقدم يحققه المسلم في الدنيا لدينه يرفعه درجات بميزان الآخرة. هذه الثنائية المتفاعلة بين ما نراه وما نؤمن به غيبا هي التي تميز الإسلام عن غيره من الأديان.
  

لو آمنت بالله، سيتبعك إليه التسليم التام. نعم ستعمل عقلك، والدين أصلا يدعوك لهذا، ولكنك ستعرف إطارك المسموح، فتسأل لتعلم لا لتجادل
لو آمنت بالله، سيتبعك إليه التسليم التام. نعم ستعمل عقلك، والدين أصلا يدعوك لهذا، ولكنك ستعرف إطارك المسموح، فتسأل لتعلم لا لتجادل
 

فوفقا لبيجوفيتش، أيضًا، فإن اليهودية التي تُنكر الخلود وتبحث عن أرض الميعاد، والمسيحية التي تؤمن بالملكوت وتدع ما لقيصر لقيصر، ستكونان عاجزتين عن احتواء الإنسان بروحه وعقله، وكذا ستمضيان على قدم واحدة في طريق لا يمكن السير فيه على غير اثنتين(1). ستجد عند بيجوفيتش إجابات أطول واستفاضة واسعة إن أردت الذهاب، وأظنني أشجعك على ذاك.
 
كانت الإجابات هنا شافية لي ووافية، تطعمها الإثباتات الواسعة في علمي العقيدة والحديث المدعوم بالسند وعلم الرجال، وكذا يعزّزها المنطق ولا يدحضها العلم –غير المؤدلج- ومن ثم كان السؤال الأول في هدوئه مستقر: الله هو الله، وأنبياؤه حق، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقرآنه، المعجز على كل منحى، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكان كل سؤال تابع لهذا يعرف من أين يبدأ وما هو المرام.
 
هكذا.. لو آمنت بالله، سيتبعك إليه التسليم التام. نعم ستعمل عقلك، والدين أصلا يدعوك لهذا، ولكنك ستعرف إطارك المسموح، فتسأل لتعلم لا لتجادل، وتتعلم لتزداد يقينا لا لتبحث عن الشبهات، فتنشغل بالعلم عن المجادلة، وتهتدي بالنور بدلا من لعن الظلام. لو آمنت بالله لسرت إليه بتسليمك إذا أقعدك الذنب، فلا تنكر المفروض ولا تبيح المحذور، وإنما تخضع بقلبك وعقلك وإن عصتك جوارحك؛ لأن عاصيا منيبا أفضل كثيرًا من جاحد كذوب، ولأن من عصى على تسليم أقرب للعودة ممن عصى بعد جحود.
 
لو آمنت بالله لما هدمت دينه، في قلبك، من المنتصف، وإنما ستبني جسوره بين عقلك وقلبك من القاعدة؛ لتؤسس فوق اليقين طاعتك، وتضع الترتيب في تدرجه السليم، فيحدوك إلى التفكير قوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، ويستوقفك، كعبد ناقص، إلزام مولاه الأكمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ . قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ). فقط.. لو آمنت بالله لهدأت نفسك واستقام السبيل. فالله أعلم.

____________
 
(1): يفصل هنا بيجوفيتش بين اليهودية والمسيحية اللتين تنزلتا على موسى وعيسى، وبين التحريف الذي نالهما على يد أتباعهما وهو ما يعنيه هنا بالنقد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.