شعار قسم مدونات

أفريقيا وتركيا والشراكة الاستراتيجية

blogs البشير و أردوغان

إن الجولة الأفريقية التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى كل من السودان وتشاد وتونس في الفترة ما بين 24-27 من شهر ديسمبر المنصرم سلطت الأضواء على العلاقات الأفريقية التركية المتنامية بشكل مضطرد وفي شتى المجالات، الأمر جعلها تكتسب أهمية لدى الكثير من الإعلاميين والمحللين السياسيين المنقسمين بين مؤيد ومنتقد، لكون أفريقيا قارة غنية بالموارد الطبيعية وتحتل موقعا جغرافيا مميزا بالمفهوم الجيواستراتيجي، ولها أهداف تنموية تتطلع إلى تحقيقها لتنهض من كبوتها، فيما تركيا دولة ناهضة تعمل على شق طريقها نحو القمة، فتشابهت الأهداف والرؤى لدى الطرفين، وهذه القصة ستكون بطبيعة الحال مزعجة لأي طرف ثالث يخطط لأن تبقى أفريقيا وتركيا خلف حاجز التقدم. وبعيدا عن هذا وذاك، سنتوقف عند بنية العلاقات الأفريقية التركية من حيث الجذور التاريخية والواقع المعيش والرؤى المستقبلية التي ستؤول إليها هذه العلاقات على المدى القريب.

 

تاريخيا تعود الصلات بين أفريقيا والأتراك إلى مراحل زمنية بعيدة منها ما يعود إلى أيام الدولة الطولونية في القرن التاسع الميلادي، ثم اتسعت هذه الرقعة في القرن السادس عشر عندما كان للدولة العثمانية وجود في مناطق الشمال الأفريقي، بالإضافة إلى السودان ومنطقة القرن الأفريقي وأجزاء أخرى من القارة، ففي عام 1555 أنشأ العثمانيون "إيالة الحبش" في جزء من شرق السودان ودولة أريتريا الحالية، وكانت جزيرة سواكن التي تردد صداها كثيرا في هذه الأيام عاصمة لتلك الإيالة العثمانية، فيما أصبحت تونس ومنذ عام 1574 ضمن الولايات العثمانية في الشمال الأفريقي.

 

أردوغان ونظيره التشادي يعربان عن تطابق آرائهما حول القضايا الدولية (وكالة الأناضول)
أردوغان ونظيره التشادي يعربان عن تطابق آرائهما حول القضايا الدولية (وكالة الأناضول)

أما عن تشاد فقد رصد التاريخ تلك الزيارة التي قام بها وفد من مملكة كانم "تشاد الحالية" إلى إسطنبول في عام 1577 في عهد السلطان مراد الثالث، وبشكل أو بآخر فقد استمرت هذه الصلات منذ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا، وإن كانت قد مرت بفترات من الجمود والخمول بفعل المتغيرات والأحداث الدولية.

في الطور الأخير من العلاقات الأفريقية التركية، وفي ما يخص التوجه التركي نحو دول الاتحاد الأفريقي فإن الملامح الأولى لهذا الطور قد بدأت منذ 1989 وذلك عند ما وضعت تركيا استراتيجية واضحة ترمي إلى تنمية علاقاتها الاقتصادية مع البلدان الأفريقية، ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى حكم البلاد في عام 2002 ازداد الاهتمام التركي بأفريقيا لعدة اعتبارات، منها ما يأتي في إطار مفهوم العمق الاستراتيجي لتركيا التي تقع جغرافيا ضمن "أوراسيا" لكنها في ذات الوقت جار للقارة الأفريقية، أو بعبارة أخرى فإن تركيا وأفريقيا كلاهما يقع ضمن الإطار الجغرافي لـ"أفرو-أوراسيا" فضلا عن العوامل والروابط المشتركة مثل الدين والثقافة والتاريخ.

 

حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول الاتحاد الأفريقي شهد قفزة نوعية من 5.4 مليار دولار في العام 2003 إلى 23.4 مليار دولار في العام 2014

تلك العوامل التي أسهمت بدورها في تسهيل عملية التقارب والتفاهم الأفريقي التركي الذي تمت ترجمته بالفعل خلال الـ15 سنة الماضية بدءا من عام 2005 الذي اعتبرته تركيا "عام أفريقيا" وهو العام نفسه الذي نالت فيه تركيا صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي، وفي عام 2008 احتضنت اسطنبول القمة الأفريقية التركية الأولى بحضور 49 بلدا أفريقيا، وفي العام ذاته أعلن الاتحاد الأفريقي أن تركيا شريك استراتيجي له، وعند انعقاد القمة الأفريقية التركية الثانية بغينيا الاستوائية في 18 من نوفمبر عام 2014 تم تحديد المحاور الرئيسية للشراكة الأفريقية التركية التي تشمل الصناعة والتعليم والصحة والتجارة والطاقة وغيرها.

 

وتعزيزا لهذه الشراكة، فقد ارتفعت حصة الزيارات المتبادلة بين الطرفين وعلى أعلى المستويات، ويعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر زعماء العالم زيارة إلى أفريقيا حيث زار 28 بلدا أفريقيا في الفترة ما بين 2004-2017، فيما وصل عدد السفارات التركية في أفريقيا إلى 39 سفارة إلى جانب 34 سفارة أفريقية في أنقرة كمؤشر جيد لقوة العلاقات الأفريقية التركية.

وبالإضافة إلى العوامل السالفة الذكر، والتي أسهمت في بناء هذا التطور السريع في العلاقات الأفريقية التركية، نجد هناك انسجاما تاما بين الطرفين في ما يتعلق بالرؤى والاستراتيجيات التي يتبناها كل منهما تجاه الآخر، فبالنظر إلى السياسة التركية تجاه أفريقيا نجد من البداية أن الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923 كانت تتبنى مبدأ "السلام في الوطن والسلام في العالم" وهو ما جعلها تنتهج سياسة تهدف إلى خلق وضع إقليمي ودولي يتمتع بالسلام والاستقرار، وقد تبلور ذلك جليا في سياسة "صفر مشاكل" التي تبناها حزب العدالة والتنمية، مما يعني ضمنيا أن تركيا ستنتهج سياسة معتدلة تخدم مصالحها ولا تضر بمصالح الآخرين، يعني سياسة النأي بالنفس عن التدخل في الشؤون الداخلية وانتهاج مبدأ "رابح رابح".

 

وهذا النحو هو ما يعكس تلقائيا وجهة النظر الأفريقية تجاه تركيا التي نالت قبولا واسعا بوسمها شريكا استراتيجيا وعضوا مراقبا في أعلى تجمع أفريقي على الإطلاق، لنجد في المحصلة نتائج إيجابية على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية كما سنلاحظ ذلك في الآتي:

على الرغم من التحديات التي ستقف في وجه تركيا وأفريقيا نظرا لكون القارة الأفريقية باتت وجهة لجميع القوى الدولية إلا أن ذلك لن يؤثر بمسيرة العلاقات الأفريقية التركية ما دام الطرفان جادين
على الرغم من التحديات التي ستقف في وجه تركيا وأفريقيا نظرا لكون القارة الأفريقية باتت وجهة لجميع القوى الدولية إلا أن ذلك لن يؤثر بمسيرة العلاقات الأفريقية التركية ما دام الطرفان جادين
 

على المستوى السياسي وفي ما يتعلق بالقضايا الدولية نجد هناك توافقا في وجهات النظر بين دول الاتحاد الأفريقي وتركيا في أكثر من صعيد، ونذكر من ذلك، على سبيل المثال، عندما ترشحت تركيا لشغل منصب عضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي لعامي 2009-2010 حصدت جميع أصوات الدول الأفريقية الأعضاء في الأمم المتحدة باستثناء صوتين فقط.

أما على المستوى الاقتصادي فإن حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول الاتحاد الأفريقي شهد قفزة نوعية من 5.4 مليار دولار في العام 2003 إلى 23.4 مليار دولار في العام 2014، وعند النظر إلى الاتفاقيات الأخيرة الموقعة بين تركيا والسودان وتشاد وتونس يمكن القول بأن هذا الرقم سيتضاعف خلال السنوات القليلة المقبلة.

أما في الإطار الثقافي فإن المسلسلات التركية المدبلجة قد اكتسحت الساحة الأفريقية ولاقت قبولا واسعا خاصة في دول شمال أفريقيا بالإضافة إلى السودان وتشاد ودول القرن الأفريقي. ومن جانب آخر فقد أصبحت تركيا وجهة للكثير من الطلاب الأفريقيين.

في الختام وبالنظر إلى مستقبل العلاقات الأفريقية التركية فعلى الرغم من التحديات التي ستقف في وجه الطرفين نظرا لكون القارة الأفريقية باتت وجهة لجميع القوى الدولية إلا أن ذلك لن يؤثر كثيرا في مسيرة العلاقات الأفريقية التركية ما دام الطرفان جادين وملتزمين بمبدأ الشركة الحقيقية. ومن هذه اللحظة وحتى موعد انعقاد القمة الأفريقية التركية الثالثة المزمع انعقادها في العام القادم 2019 سيتحقق الكثير مما تم الاتفاق عليه في قمة غينيا الاستوائية عام 2014.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.