سَمَاءٌ مُلَبَدَة، دُخَانُ حَرَائِقَ مِن هُنا وَهُنَاك وَطَيَرَانٌ حَربِي مَع رَائِحَةٍ لِلبَارُودِ غَطَت عَلَى رَائِحَةِ يَاسَمِينِ الشَامِ تَعمُ الأَزِقَة، مَوت يُخَيمُ وَيُرخِي ظِلَالَهُ عَلَى البِلدَة، قُفلتِ الوالدةُ الأَبوَابَ وخَبَأَتِ مُفتَاحَ المَنزِل، فَلَن يَطُولَ الفراقُ كَثِيرَا وَإِن طَالَ فَلَنا عَودَة بإذنِ اللهِ وَحِينَها سَنحتَاجُ ذَلِكَ المفتاح، كنا قَد تَعَرَفنَا سَابَقَا عَلَى مُفتَاحِ العَودَةِ الفِلَسطِيني، رَأَينَاهُ عَلَى شَاشَاتِ الإِعلَامِ كَثِيرَا وَهَا نَحنُ الآنَ نَتَعَرَفُ عَلَى أَخِيه، مفتاحُ العَودَةِ السُورِي سَيَغدُو مَعَ الأَيامِ حُلُمَا يُوَازِي فِي بُعدِهِ حُلمَ العَودَةِ الفِلِسطِينِية. وُضِعتِ الأغراضُ في السيارةِ وانطلقت مِن طَرِيقٍ يُفتَرَضُ أَنهُ بَعَيد عَن مَكَانِ الاشتِبَاكِ العَنِيف، نَظَرَاتٌ لِلخَلفِ أَورَثَتِ الجميعَ حُزنَا لَو وُزِعَ عَلَى أِهلِ الأَرضِ لَكَفَاهُم، اختَنَقَتِ الحَنَاجِرُ بالغصات وَسَقَطَت أَوَلُ دَمعَةٍ مِن عَينِ أُمِي وُسَقَطَ مَعَهَا العَالَمُ فِي نَظَرِي، حَانَتْ مِني التِفَاتَة وَدَاعٍ أخِيرَة، وَداعٍ لِلبَلَدِ وَالبَيتِ وَالذِكرَيَات، هَذِهِ الأَخِيرَةُ أَكثَرُ إِيلَامَاً مِن غَيرِهَا بِكَثِير.
فِي لَحَظَاتِ الحَربِ وَالقَصفِ لَا خَوفَا يُشَابِهُ ذَلِكَ الخَوفَ الذي يَنبَعِثُ مِن أَصوَاتِ الطَائِرَاتِ وَغِيرِهَا مِن خَاطِفَاتِ الأَروَاح، وَفِي لَحَظَاتِ النُزُوحِ يَزدَادُ الخَوفُ ضِعفَا، خَوفٌ مِنَ المَوتِ وَخَوفٌ مِنَ اللاعَودَة، فِكرَةُ اللاعَودَة قَاتِلَة، تَأكُلُ الرُوحَ وَتَسحَقُ الأَمَل، تَتَدَاخَلُ الأَصوَاتُ المُنبَعِثَةِ مِن أَسلِحَةِ القَتلِ مَعَ صَوت دَاخِلِي يَدعُوكَ لِأَن تُطِيلَ النَظَرَ قَدَرَ الإِمكَانِ إِلَى زَوَايَا بَلدَتِكَ لِأَنَهَا قَد تَكُون آخِرَ النَظَرَات.

ما زِلتُ أَذكرُ أَنِي فِي مَرَاحِلَ الطُفُولَةِ بَكَيتُ كَثِيرَا حِينَ بَاعَ وَالِدِي ذَلِك المَنزِلَ الذي عَشِقتُهُ وَتَرَبيتُ فِيهِ وَاشتَرَى بَدَلَاً مِنهُ آخَرَ فِي مَنطِقَة مُغَايِرَة، كَرِهت أَن أَرَى ذَاك الطِفل الصَغير الذي قَدمَ مَعَ عَائِلَتَهُ لِشِرَاءِ مَنزِلِنَا مُبتَسِما سَعِيدَا، لَحظَةُ القول بِأَن غُرفَتِي سَتَغدُو بَعدَ أَيام مَكَانَهُ وَمُلكَه أَحسَستُ فِيهَا أَنَهُ سَرَقَ مَاضِيَ وَدَفَنَهُ وَزَرَعَ مَكَانَهُ بِذرَةَ مُستَقبَلِهِ هُو، فِكرَةُ وُجُودِ أَحَدٍ غَيرِي فِي غُرفَتِي يَجلِسُ بِهَا وَيَبنِي عَالَمَهُ الخَاص عَلَى أَنقَاضِ ذِكرَيَاتِي كَانَت تشبِعُنِي قَهرَاً، أَقسَمتُ حِينَهَا أَني لابُدَ لِي أَن أَعُودَ يَومَا وَأشتَرِي ذَلِكَ المَنزِل مَرَةً أُخرى، وَهَا أَنَا اليَومَ أَبتَعِدُ عَن مَنزِلِي الآَخَر مكرها أَيضَا وَمَا أَشبَهَ اليومَ بِالبَارِحَة.
مِن أَكبَرِ المُفَارَقَاتِ التي عِشتُهَا فِي حَيَاتِي أَن أَتَمَنى بِأَن يَتَحَوَل مَنزِلِي إِلَى كُتلَةٍ مِنَ الأَنقَاضِ بَل وَأَفرَحُ بِذَلِكَ أَيضَاً أَكثَرُ مِن فَرحَتِي بِبَقَائِهِ قَائِمَا، وَلَكِنَنِي رَأَيتُ السَبَبَ مَنطِقِيا فِي مَا بَعد، أَن أَرَى بَيتِيَ رُكَامٌ فَوقَ رُكَامٍ أَهوَن عَلَي مِن أَن أَرَى المُحتَلَ يُدَنِسُهُ إِذ لا صُعُوبَةَ فِي إِعمارِ المَنزِلِ وَلَكِن هُنَاكَ صُعُوبَةٌ فِي مَسحِ قَذَرِ المُحتَلِ وَخُبثِهِ.
هَكَذَا إِذَا رَحَلنَا عَن مَلعَبِ الصِبَا، ذَلِكَ المَكَانِ الذي كَبِرتُ وَوَعِيتُ فِيهِ تَرَكتهُ مُجبَرَا بَينَ فَكي كَمَاشَة، خِيَارَان أَحلَاهُمَا مُر، إِما الدَمَارُ أو الاحتِلَال، وَسَيَتَجَرَعُ قَلبِي المُر يوماً إِثرَ يَوم فِي مَنفَايِ بَعيِدَا عَنه، فَبَعضُ الآلامِ لَا تَصغرُ مَعَ مُرورِ الأَيامِ بَل إِنَها تَكبَرُ بِشَكلٍ تَدرِيجِيٍ إِلى أَن تَطمِسَ الروحَ طَمساً. كانَ نزوحنَا مِن بِلدَةِ إِلى بَلدةٍ مُتَجَنبينَ آثارِ الحَربِ مُقَدِمة رَحِيلِنا النِهَائيِ عَن جُغرَافيا الوَطِن كاملاً، رَحِيلاً إِلى خَارِجِ حُدُودِه، وَبِالفِعلِ حَدَثَ هَذا الرَحِيلُ وَبَعدَ مَشَقاتٍ "مُمِيتَةٍ" حَرفِياً تَم اجتِيَازَ الحُدودِ وَالوُصولِ إِلى ذَلِك البَلَد الذي يُسِمى "برَ الأمان"، لِتَتَحولَ رُتبَتي مِن نازحٍ إِلى لَاجئ وَيَتحولَ مُسَمايَ الوَظِيفِي مِن مُوَاطِن إلى مُهاجر غيرِ شَرعي.
واللهِ إِنَكِ لَأَحَبُ البِقَاعِ إلَي وَلَولَا أَن أَهلَكِ أَخرَجُونِي مِنكِ مَا خَرَجتُ، كَلِمَاتٍ خَرَجَت مِن فَمِ أَطهَرِ مَن مَشَى عَلَى الأَرض، تَلَوَعَ قَلبَهُ حُزنَا عَلَى فِرَاقِ بَلَدِهِ التي وُلِدَ وَتَرَعرَعَ فِيها، وَكَأَنَهُ يُعَلِمُنَا أَن فِرَاقَ البَلَدِ سَيَكُونُ سُنَةً لِطَالِبِ الحَقِ مِن بَعدِه، وَأَن دَيدَنَ العَدُو وَاحِد هُوَ انتِشَالِ النَاسِ مِن وَسَطِ بِلَادِهِم لِيَكُونَ ذَلِكَ قَتلَا وَتَعذِيبَا مُضَاعَفَا لَهُم.