آصرة مشتركة بين الرايات التي ترفرف وناطحات السحاب التي تعلو؛ هي الاستعارة الرمزية المضللة، التي تطلب الرموز بدل فحواها وتفتعل الإيحاءات دون مغزاها، فالرمز إن تضخّم في الوعي قد يُطلَب لذاته بديلا عن "مطلوب" يرمز إليه في الأساس، وقد أتاحت هذه القابلية مجالا للاشتغال الدعائي المضلل ولبعض السياسات والتوجهات التي ذهبت إلى حد تعظيم الرمز ثم تقديمه بصفة جوفاء، مع إغفال ما يُفترَض أن ينطوي عليه أو يشير إليه.
لا يتكرّس هذا المنحى بصفة مقصودة دوما، لأنّ إشعاع الرمز قد يأخذ بالألباب ويحجب الوعي بحقيقة استحضار ما يرمز إليه. فمن التقاليد التي تواطأ عليها البشر وتتخذ لها تعبيرات متعددة في أوساطهم وبلدانهم وأممهم؛ أن تقع استعارةُ الرمز، أو تقمّصه، بصفة بديلة عن استلهام الفحوى التي يشير إليها أو المغزى الذي يعبِّر عنه، فالحرص على التغليف دون المضمون، ينطوي على أقدار من التضليل الذي يتوجه إلى الذات والآخرين.
تصوّرت بعض الأمم النهضةَ الحضارية من خلال ما استولى على وعيها من مظاهر نمطية، مثل ناطحات السحاب في مانهاتن ونمط الحياة الأمريكي بتقاليده الاستهلاكية، ومشاهد الجامعات ومراكز البحث الدؤوبة، فحرصت بعض الدول على الاستثمار الساذج في إنتاج مشاهد كهذه تُوحي للوهلة الأولى بالاقتدار على المُنجَزات الحضارية.

تبدو النتيجة مرئية للجميع، بصعود المباني التي تخترق السحاب، وبشيوع "نمط الحياة الأميركي" بتفاصيله التي تبدأ مع الوجبات السريعة ولا تنتهي مع السيارات التي تبتلع الوقود، علاوة على توطين "مصانع شهادات" تعمل بلا هوادة، وبجوارها لافتات متكاثرة تزعم الاشتغال بالبحوث والدراسات دون أن تنبري لتقديم مقاربات فعالة لمعضلات الواقع.
وإن كانت حقوق الإنسان ومكانة المرأة من موضوعات النقد التي تطارد دولا عربية ومسلمة؛ فقد استحدثت بعضُها تبعا لذلك وزارات لحقوق الإنسان وباشرت تنصيب نساء لبِقات يتحدثن الإنجليزية بطلاقة في مواقع حكومية كي يتمّ إبرازهن في التواصل الخارجي والدبلوماسي تحديدا. تكرّست هذه الجهود أساسا للعلاقات العامة وتحييد النقد الخارجي وكسب شهادات التقدير من "الغرب" تحديدا، قبل أي معالجة واقعية لملف المرأة أو احترام جاد لحقوق الإنسان.
تبقى الصروح والأبراج من أعظم الانطباعات المحسوسة التي تبيعها الأمم لذاتها ولغيرها، فالمبنى الذي يناطح السحاب يحظى برمزية فائقة في التعبير عن النهضة والرفعة، وهو كفيل بأن يهيْمن على وعي البشر، وقد يضللهم إن منَح الانطباع بأنهم أنجزوا مهمتهم الحضارية وبلغوا آفاق السموّ في المجالات كافة، حسب توجيهات "القيادة الرشيدة".
في حضرة الرمزيات يتضاءل الحس النقدي وتضمحل روح التمحيص، فالإشعاع الرمزي قد يأخذ بالألباب كل مأخذ، وقد ينطوي على حِيَل مباشرة أو كامنة، تباشر التضليل |
والواقع أنّ اكتمال خط الأفق من ناطحات السحاب لا يقضي باجتياز مسيرة نهوض حضاري، بل قد يكون المشهد برمّته خلفية مسرحية تُمعن في التقمّص المدني الذي يستدعي رموز "التقدم" بدل التقدم ذاته. لاحَظ القوم، مثلا، أنّ مانهاتن من رموز الصعود الأميركي، فباشروا التنافس في اصطناع شبيهاتها دون أن ينتشلهم هذا التطاول في البنيان من دركات العالم الثالث.
تبلغ المفارقة مداها مع الذين يتقمّصون فرنسا بينما ينبذون الثورة الفرنسية، ويتطلعون إلى توطين السوربون واللوفر وهم يناهضون شعارات الحرية والمساواة ويستنكرون المطالبة بالحقوق. إنّ فرنسا التي يريدون لا تتجاوز المظهر البصري إلى الجوهر الفعلي، ولا تتعدى القشرة الأخاذة إلى الفحوى الواقعية، ففرنسا خاصتهم هي علامة مقلدة ينشدون الاستحواذ عليها دون الاكتراث بحقيقة "المُنتَج" الذي تحمله.
وقد سعت دول الفتات الهشة التي نشأت بموجب خطوط سايكس بيكو إلى منح شعوبها رشفة السيادة والعظمة، فأسرفت في رفع الأعلام وعزف الأناشيد وتعظيم أسلاك التجزئة، بالتلازم مع إسباغ الألقاب الرسمية المُهيبة على قادتها وشخصياتها. أشرَبَت الرايات الخفاقة والمعزوفات المدوية شعوبَها انطباعات الاستقلال وأوهام السيادة؛ ثم تركتها مكشوفة بلا حماية في لحظة الحقيقة. ولتجدنّهم أحرص الناس على استحضار كلمة "دولة" مع اسم بلدهم، تعويضا من بعضهم عن شعور غائر بحداثة أسنانها وهشاشة مقوِّماتها.
ولم تكن بعض التشكيلات المسلحة التي نشأت لمناوأة أنظمة الحكم المترهلة هذه أحسن حالا عندما استرجعت الطقوس ذاتها، فقد بالغت هي الأخرى في رفع الرايات واستعراض مظاهر السيادة المتوهمة في مضارب منزوية في البراري والجبال والأطراف، حتى انتهى الأمر ببعضها إلى دولة المقاطع المرئية المسماة "داعش".
ما جرى مع فلسطين كان محاولة لمقايضة الحقيقة بالرمز، والتنازل عن الجوهر لقاء المظهر. رفع الاحتلال الحظر عن الأعلام الفلسطينية، وعن الشارات واللافتات، وحتى عن قيادات تاريخية دخلت فلسطين (1994) عبر بوابات الاحتلال التي ما زالت إلى اليوم في مواضعها تقريبا. رفرفرت الأعلام وتزايدت الألقاب الرسمية وتناثرت المناصب، وكأنّ قطار التحرير بلغ محطته الأخيرة. عِوَض مَطالِب الاستقلال تم مدّ البساط الأحمر لاستقبال الوفود على وقع المعزوفات، وصدر طابع البريد الفلسطيني أخيرا، لكنّ قيمته ظلّت مدفوعة بالشيقل الإسرائيلي. ولأنّ الدولة تقتضي جيشا مهيبا فقد وقع إغراق الساحة الفلسطينية بغابة الأجهزة الأمنية التي عليها التخابر مع أجهزة الاحتلال ضمن التزامات "التنسيق الأمني"، دون أن يُسمَح لها باعتراض قوات الاحتلال في انتهاكاتها اليومية تحت العلم الفلسطيني.
تمت مقايضة السيادة بالراية المعبرة عنها، واستعارة الرموز بدل فحواها ومضامينها، وأصبح الرمز هو المعيار بدل القيمة التي بزغ معبِّرا عنها. تم الاستدراج إلى هذا المسار لأنّ الافتتان بالرمز أفضى إلى التعلّق به على حساب فكرة يُعَبِّر عنها في الأساس أو مغزى انبثق الرمز عنه في أصل الأمر. وفي حضرة الرمزيات يتضاءل الحس النقدي وتضمحل روح التمحيص، فالإشعاع الرمزي قد يأخذ بالألباب كل مأخذ، وقد ينطوي على حِيَل مباشرة أو كامنة، مقصودة أو غير مقصودة، تباشر التضليل وتسويق الأوهام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.