شعار قسم مدونات

قرار التخلي

Blogs- alone
الحياة تعاقب للحظات خوف مستمرة : خوف من الرسوب، من الفشل، من الحب، من الماضي، من المُستقبل، من الفَقر، من المرض، من الإِحبَاط، من الآخرين، وأحيانا حتى من أنفسنا. فمهما كَانت تركيبة الإنسان النَّفسية و تَنَوَّعَت نظرته للحياة، إلا أنه يكون قد عَاش يقينا في فترة من فترات حياته وضعية سَيطر عليه فيها إحساس عدم الشعور بالأمان، وراودته فيها فكرة التخلي عن كل شيء، لإنهاء توتر الانتظار، للتخلص من تناقض وتضارب مشاعره، والخروج من دوامة التفكير التي تستوطن عقله، كأنسب حل رغم صعوبته. 
 
ذلك أنه ليس لدى الجميع شجاعة أخذ قرار التخلي والإنسحاب من الصراع، لما له من عواقب وخيمة قد تنعكس على سيرورة حياة المرء بأكملها، وقد تجعله يعيش وضعية غامضة لا يعرف فيها أسلك الطريق الصحيح أم أنه عَجل بهلاكه، وتلك مرحلة الشك والحيرة بامتياز، تتماطر فيها التساؤلات إلى ذهنه، فيكون تارة سعيدا وراضيا عما قام به، وتارة أخرى نادما ومشتاقا للشيء الذي تخلى عنه، إذ يظهر التَّخلي مثلا على شكل استسلام، بالابتعاد عن الجميع، بالتخلي عن وطنِك، عن أَهلكَ، عن حَبِيبِكَ، عن أَصدِقَائكَ، عن الدِّرَاسَة، عن عَمَل تَقوم به، أو هِوَايَة تعشقها، فقط لأن كل ذلك لا يوافق تطلعاتك ولم يعد يُشْبِع احتياجاتك، أو لأنه قريب من منطقة الخطر، ولا تعرف إن كانت النتيجة ستكون لصالحك بِامْتِلاَكه، أو على حساب حياتك بفقدَانه. هنا تخاف من المخاطرة والمغامرة، فتنسحب بهدوء حفاظا على صفاء مشاعرك، كرامتك، وسُكون منطقة الراحة الخاصة بك.
 
لذا غالبا ما يكون قرار التخلي صعب ويضعك بين نارين، إِمَّا أن تدير ظهرك لكل شيء وتنتقل لمرحلة أخرى من حياتك دون الالتفات إلى الوراء، و إِما أن تحاول إصلاح ما يبدو غير قابل لذلك. فأحيانا يكون من الأفضل حذف الكثيرين من حياتنا رغم المكانة التي يشغلونها، لأن الضَّرَر الذي يُلْحِقُونه بنا والألم الذي يُسَبِّبُونه لنا، يطغى على الخير والحب الذي يبدونه تجاهنا. فقد تجدهم أَقرب الناس إليك وأَحبهم إلى قلبك، لكن في  الوقت نفسه أَكثرهم عَرقلَة لمسارك وأَشدهم جفافا نحوك.
 

الأسوء أن تعتاد وتُدمن التخلي، فتصبح مؤهلا لحذف أي شيء من حياتك بسهولة، حتى تتحول لإنسان قاسي القَلب، خَسِر كل ما يملك، ولم يتبق لديه سوى روح متعبة
الأسوء أن تعتاد وتُدمن التخلي، فتصبح مؤهلا لحذف أي شيء من حياتك بسهولة، حتى تتحول لإنسان قاسي القَلب، خَسِر كل ما يملك، ولم يتبق لديه سوى روح متعبة
 

 المصير نفسه يطال بعض الذكريات المؤلمة التي لا تزال تسكن داخلك، يقودك الحنين لتصفحها بين الفينة والأخرى، كي تقتات منها، كأنك تُعيد عيشها من جديد، بنفس التَّفَاصيل، الحوارات، الأشخاص  والأحداث، ثم ترجع لواقعك بعد هروب دام لثوان، لتكتشف في الحين أنك تبيع نفسك الوهم وتعلقها بالسَّراب. لكن، أحيانا أخرى يكون الفرج قريب لا يستلزم منك سوى مزيد من الصبر، إلا أنك تفضل الرحيل دون أن تتحمل قليلا بعد.

 
قرار التخلي إما أن يرْفعك للأعلى ويُشكل نقطة تحول فاصلة في حياتك، بفضل مسار جديد اتخذته عن اقتناع بعد تفكير منطقي وعميق، كابتعادك عن أشخاص وعادات تسحبك نحو القاع، أو يكون سببا في سقوطك نتيجة تهورك وتضحيتك بكامل الخيارات في حالة اندفاع وغضب، أصبحت فيها مستعدا للتخلي عن كل شيء؛ حتى عن نفسك. ويحدث أن تتخلى عن شيء كان تافها بالنسبة لك، ثم تدرك بعد ذلك قيمته وأهميته في حياتك، إلا أن استرجاعه بعد ذلك يكون إما صعبا جدا يستلزم التضحية بأشياء أخرى، أو مستحيلا. 
 
والأسوأ أن تَعْتَادَ وتُدمن التخلي، فتصبح مؤهلا لحذفِ أي شيء وأي شخص من حياتك بسهولة، حتى تتحول لإنسان قاسي القَلب، مُتَصلب المَشَاعر، خَسِر كل ما يملك، ولم يتبق لديه سوى روح متعبة تنزف كثيرا، تحرق كل شيء يقترب منها قبل أن تحرق، شديدة الحذر، منتبهة للغاية، فقدت الثقة في نفسها وفي المجتمع. فلا حياتك تستقيم بعد ذلك، ولا العالم يسعد بوجودك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.