ظننت بعد كل هذه الهوجاء، في ليلة رأس السنة، أنني سأرى عالَماً مختلفاً في الصباح التالي، غير أن تلك الورقة الأخيرة في الروزنامة، أي التقويم السنوي، ما زالت معلقة، ليست على الحادي والثلاثين من الشهر الثاني عشر، بل على تاريخ سابق غير مهم، لأنه كان تاريخاً متعلقاً بموعد شراء هاتفي الذكي، ومنذ ذلك الحين، لم أعد أهتم بالتقويم وقلب الأوراق ولا بقراءة الحكمة المكتوبة على خلفيتها.
بدأت المواقع تعجّ بكتابات نهاية السنة، وبدأ مغردو الحكمة يجترحون تجاربهم، ينثرون منها ما يظنونه نافعاً لغيرهم، أو ربما لهم، وربما فقط لهم، إما رغبة في مجاراة موضة نهاية السنة، في تباهٍ محموم على الموسم، أو رسالة ذاتية نطمئن بها أنفسنا قبل أي شيء وقبل أي أحد آخر.
ثم يكون الصباح، فترى أن الانتقال لم يكن يحتاج منك تاريخاً محدداً، ولا لحظة مفصلية، كما في القصص، ولا دقات ساعة يجتمع عليها العالم كله ليخبرك، بكل ما لديه من بهجة وألق، بأن العام قد انتهى وبأن السنة القادمة هي سعيك المختلف ودورتك الجديدة، وأن انتظارك المتململ لتغير الرقم آخر الخانة هو ما كان ينقصك وينقص العالم، لتحدث المعجزة، وكلنا نعرف، أيها الغارق، وكلنا غرقى، أنك أنت عامك ومفصلك ولحظتك وساعتك ومعجزتك. ولتكتفِ من وهج الألعاب النارية المهدورة بالنظر، ولو كنت نائما لحظتها فلن تغيب عن شيء ذي بال، و ستحظى ربما بساعات جيدة من الراحة تكون بها قادرا على الانتقال الحقيقي.

لكن هناك ما يؤرق البعض، فعلاً يؤرقهم، هذا الرقم الجديد سيبقى محط الخطأ في بداياته، وتعثر المعاملات الرسمية، وإعادة طباعة المخاطبات. وعلى طرف آخر من الأرق، سيبقى رقماً يذكرك بتقدم العمر وتأخر الهدف، وانقضاء اللحظة، واستعجال الإنجاز. فأنت -شئت أم أبيت- تخضع لتقويم العالم منذ أن زجوا بتاريخ قدومك إليه، في شهوره الفلكية، فدارت دورته عليك ووسمت بوسم الميلاد، وأصبح مقياس وجودك في نظراتهم المتفحصة يخضع لذلك التقويم، المعلق فوق رأسك وفي جواز سفرك وتحت سؤال "كم عمرك"؟
لكن على طرف آخر من الإدراك، فإن الرقم الذي وسمك منذ ولادتك هو رقم، وكل ما تعطيه من ذاتك هو الذي يجعل لهذا الرقم شأنا وموقعا وحالة خاصة، وكذا العام، فلن ينتظر إنجازك، انقلاب الورقة، ولا تغير الرقم على شاشة هاتفك، ولن ينتظر قرارك، هذه القولبة العالمية. ولكنه الموسم الذي ينهك الإدراك، وربما يسطّحه، فتغدو حبيس ما عكفوا على صناعته من مواسم، والأَولى أن تغدو حبيس ذاتك لا حبيس المواسم. فتعطي من ذاتك كما تشاء، لا كما يشاؤون.
إذن، فالشمس اليوم هي الشمس نفسُها، إلا أنّ هناك من تشرق شمسه من مكان آخر، لا يخضع للتقويم ولا الجغرافيا ولا الفَلَك. وهناك من يختلق صباحا مختلفاً كل يوم، لا علاقة له بالرقم الجديد في الروزنامة وأوراق المعاملات. وهناك من يرى اليوم جديداً، لمجرد أن أحاديث ذاته وقلبه تجددت، فأصبح يرى انعكاس تجدده. وهناك من سيؤرخ بتاريخ مختلف، في اللحظة التي قرر فيها مغادرة مربع العجز وزاوية النظر وطريقة التعاطي. وهناك من سيبقى منتظراً انقلاب الرقم من جديد واجتراح المعجزة، من انفجار لعبة نارية فوق برج مشيد في الأفق، ولا جديد في الأفق وسيبقى مراوحاً بين عامين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.