وهذا لا يعني تمييع موضوع العقيدة، والقبول بكلّ الأفكار والأديان.. مهما شطّت وابتعدت، لكن المطلوب توسيعُ سَمّ الخِياط الذي يضعه بعض المصنّفين، والتسامحُ بالخلافات التي يسعها الاجتهاد، فإذا كانت المسألة اجتهاديّة فهذا يعني أنّها تحتمل الخلاف بطبيعة الحال، وكلُّ اجتهاد معتبَر ينبغي احتواؤه ضمن دائرة أهل السّنّة والجماعة، فلو كانت الأدلّة قطعيّة لما وسع العلماء الاختلاف فيها، فكون المسألة عقديّة لا يعني عدم الاختلاف فيها، وكون المسألة فقهيّة لا يعني عدم الإجماع فيها، فالاختلاف والاتّفاق ليس بناءً على تصنيف المسألة أكاديميّاً (هل هي فقهيّة أو عقديّة)، بل بناءً على قطعيّة الأدلّة وظنّيّتها، فظنيّة الأدلّة تؤدّي للاجتهاد، وإذا وُجِدَ الاجتهاد وُجِدَ الخلاف بطبيعة الحال، وقد اختلف العلماء سلفاً وخلفاً في مسائل عقديّة متعدّدة.
الذي أعتقده أنّ الله تعالى لن يسألنا عمّا يُسَمّى بآيات الصفات ولن يختبرنا اختبار عقيدة كما تفعل اللجان الفاحصة، بجزئياتٍ تصنّف الناس وتقسِّمهم، لكن الله سيحاسبنا على أركان الإيمان الستّة |
استطاعت الأمّة بفضل الله تعالى ثمّ بجهود العلماء المصلحين من تجاوز خلافات عقديّة لطالما شقّت الصفّ وفتنت النّاس، كمسألة القَدَر وخلق القرآن وحُكْم مرتكب الكبيرة.. لكن بقيت مسألةٌ تشقّ الصفّ وتصنّف الناس وهي ما يُسَمّى (آيات الصفات)، قلت: (ما يسمّى) لأنّني أعتقد أنّ آيات الصفات حقّاً هي الآيات التي تصف الله تعالى صراحة، مثل: (هو الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم..) و(قل هو الله أحد..) (على كلّ شيء قدير..)..
أمّا الآيات التي توهم الجسميّة والجهة ومشابهة الله تعالى للمخلوقات.. فهذه قضيّة ينبغي تجاوزها تماماً، واحترامُ كلّ الأطراف، فالكلّ يريد تنزيهَ الله تعالى، فالمثبتون لا يريدون تعطيل الصفات، والمؤوّلون لا يريدون تشبيه الله تعالى، والأدلّة محتملة وغير قطعيّة، ولو كان الأمر قطعيّاً ما اختلفوا أصلاً، فأصول العقائد متّفَق عليها عند أهل السُّنّة، والخلاف بين المذاهب السنيّة في الفروع، وقضيّة الصفات المختلَف فيها من فروع العقيدة. فمذاهب أهل السُّنّة المقبولة بهذه المسألة هي: الإثبات والتفويض والتأويل، أمّا المرفوض: التجسيم والتعطيل. وعليه فالمذاهب الثلاثة (أشعريّة وماتريديّة وسلفيّة) كلّهم من أهل السُّنّة والجماعة، لأنّ أهل السُّنّة واقعيّاً يشملون هؤلاء كلّهم.
يقول الإمام محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي: "أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْأَثَرِيّة وَإِمَامُهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْأَشْعَرِيّة وَإِمَامُهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْمَاتُرِيدِيّة وَإِمَامُهُمْ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رحمه الله". ينظر: لوامع الأنوار البهيّة.. (1/73). كثيرون لن يقبلوا هذا الكلام، فكيف نتجاوز الخلاف في العقيدة؟!
الجواب: هذا خلاف بفروع العقيدة وليس في أصولها، وكما أنّ الأمّة مرّت بفترات تعصّب فقهيّ مذهبيّ حتّى إن بعضهم مضى به التعصّب إلى عدم جواز التزوّج من أتباع مذهب آخر، وبنوا عدّة محاريب في المسجد الواحد! ثم شاع التسامح الفقهيّ وتجاوزت الأمّة هذا التعصّب الذميم، وعليه ينبغي على الأمّة أن تسير بوعيها لتجاوز هذه الخلافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، فالمهم هو العقيدة التي تزرع الخوفَ من الله والحبَّ له والتعظيمَ له. وهذا ما أعتقد أنّه سيحصل في قابل الأيّام، لكنّني هنا أطالب بالسرعة لاعتماد هذا الرأي، حتى نوفّر على أمّتنا المتعبة مزيداً من الجروح والآلام.
الذي نطالب به -وبشدّة- عدمُ إخراج إخوانكم من دائرة أهل السُّنَّة، فإن كنتم تتَّهمونهم بالتجسيم، فإنّهم يتهمونكم بالتعطيل! مع الأسف نحن نختلف حول بعض الصفات الإلهيّة والناس أنكروا الذات والأديان |
أمّا في الآخرة فالذي أعتقده أنّ الله تعالى لن يسألنا -بفضله وكرمه- عمّا يُسَمّى بآيات الصفات ولن يختبرنا اختبار عقيدة (كما تفعل اللجان الفاحصة) بجزئياتٍ تصنّف الناس وتقسِّمهم، لكن الله سيحاسبنا على أركان الإيمان الستّة، وأركان الإسلام الخمسة، وعن سلوكنا ومعاملاتنا وأخلاقنا، فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره. وفي مجال التعليم: علينا دراسة العقيدة المقارنة كما ندرس الفقه المقارن، فنقول: في هذه المسألة لأهل السّنّة ثلاثة مذاهب: من أهل العلم من أوّل فقال: كذا وكذا، وبعضهم قال: نفوّض المعنى لله تعالى، وبعضهم قال: نثبت صفة كذا وكذا.. ولا بأس بترجيح مذهب على آخر.. والراجح أنّ هذه النصوص لا يصحّ معاملتها معاملة واحدة، فمنها ما سِيق النصُّ لأجله، ومنها ما سيق النصّ لغيره، ومنها ما اتُفق على تأويله، ومنها ما اختُلف فيه، فينبغي معاملة كلّ نصٍ على حِدة.
ويسع المسلم اعتقاد ما يطمئن له قلبه، ويرتاح له عقله، دون تثريب أو لوم، فتفاصيل كُتُب العقائد من البدع التي لم تكن زمن الصحب الكرام، وقضيّة الصفات لم يهتمّ بها الصحابة الكرام ولا درّسوها لأحد، ولا امتحنوا بها عقيدة أحد، بل لم يرد عنهم كلامٌ واضح يمكن أن نُكوّن من خلاله تصوّراً يمكن أن يشكّل (مذهب السلف)، فقد سكتوا عنها، إلا بعضَ التفسيرات هنا وهناك، وسبب سكوتهم انشغالهم بالجهاد والدعوة، وبُعْدهم عن الفلسفة والجدل، الذي جاء في زمن لاحق. ينظر البحث القيّم: الصفات الخبريّة عند أهل السّنّة والجماعة، د.محمد عياش الكبيسي، حتّى قيل: كتب العقيدة تفرّق، والإيمان الذي جاء به الإسلام يجمع، فالإيمان إجمال والعقيدة تفصيل، الإيمان بساطة والعقيدة تعقيدٌ، الإيمان فطرة والعقيدة تكلُّف، الإيمان باب مفتوح والعقيدة سور منيع. ينظر: الإيمان المفتوح والعقيدة المغلقة، د.مختار الشنقيطي.
طبعاً هذا الكلام لن يرضي أحداً من متعصّبي المذاهب المنتشرة، فكّل مقلّدٍ لمذهب سيقول: (مذهبي صواب ومذهب غيري خطأ)، وسينتصر لمذهبه وسيسوق أدلّته وحُججه، لأنّه يعتقد أنّ رأيَه أقوى، وتوافقه الأدلّة العقليّة والنقليّة واللغويّة، وهذا طبيعي، لكنّه لن ينهي مأساةً استمرّت مئات السنين، وستستمر إلى أن نقتنع بهذا الرأي. وهنا لا نطالب أحداً بترك عقيدته، ولا نمنع الحوار العلميّ بين المذاهب، لكن ينبغي أن يبقى هذا ضمن حوارات البيت الداخليّ، كما نناقش رجحان قولٍ فقهيّ دون تشنّج، ونُبقي على مخالفنا ضمن مذهب أهل السُّنَّة.
لكنّ الذي نطالب به -وبشدّة- عدمُ إخراج إخوانكم من دائرة أهل السُّنَّة، فإن كنتم تتَّهمونهم بالتجسيم، فإنّهم يتهمونكم بالتعطيل! مع الأسف نحن نختلف حول بعض الصفات الإلهيّة والناس أنكروا الذات والأديان، ونختلف حول التوسّل بالنبيّ والناس أنكروا النبوّة والوحي! فهذا زمان إنقاذ الإيمان، وليس زمن الانتصار لمذهب عَقديّ إسلاميّ على آخر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.