ولعمري لم ألق إلا الخلاعة والمجون والإباحية وقلة الحياء، ألفاظ بذيئة نابية ومواضيع سطحية تعبث بالمقدسات وتنسف أسس الحياة الاجتماعية بكل ما فيها من دين وخلق وفضائل، روايات لا تحمل أيّ حس أدبي إبداعي أو فني فتهدم ولا تبني وتضرّ ولا تنفع ،وإن تعجب فعجبٌ أن تجد كل هذه الرداءة وقلة الأدب تسوّق على أنها أدب، وليت أصحابها اكتفوا بذاك القرف المرير ولم يزيدوا عليها ركاكة التعبير، وهنا كان لزاما على كل متتبع للشأن الثقافي والأدبي أن يتساءل:

ألسنا أمة الشعر والأدب، تلك الأمة الذوّاقة للّغة والتي طالما عُرفت باستعذابها للكلمة الجميلة الأنيقة واستقباحها للّغة الركيكة والمبتذلة فلماذا تتصدر هذه الروايات السيئة الذّكر والتي تحارب كل فضيلة وتدعو لكل رذيلة قائمة الكتب الأكثر مبيعا وتحميلا، هل انحدر ذوق القارئ العربي حتى صار بركة آسنة بعد أن كان عذبا رقراقا، أم أنّنا فشلنا في كل شيء حتى في القراءة التي يجب أن ترفعنا لتضاف أزمة الذوق إلى قائمة أزماتنا العديدة؟
للأدب غاية هي تهذيب الطّباع وصرف العواطف إلى الخير وتنبيه الضمائر الغافلة وإيقاظ الهمم والمروءات، وما إلى ذلك ممّا يكون منه نفع النّاس |
إن كل هذا الاحتفاء والتبجيل وكل هذه الضجة التي تثار حول هذه الأعمال المترديّة والمفلسة أدبيا إنّما مردّه برأيي إلى سطحية الذائقة الفكرية والأدبية للمتلقّي الذي ألبسها لبوس العظمة والجلال كما يرجع لغياب النقّاد الحقيقيين والقرّاء الجادّين، وهنا لا بدّ أن نفرّق بين الجمهور والقراء خاصة إذا علمنا أنّ أغلب متابعي الصفحات الأدبية على السوشيال ميديا هم من القراء السطحيين ومن الشباب المراهقين الذين يبحثون عن الروايات الرومانسية الفجّة بالأسلوب العامي البسيط وينفرون من الروايات الفلسفية المرهقة العميقة وشتّان ما بين قراءة تمرّ على العقل مرور القطرة على الحجر الأملس وبين قراءة تجبر صاحبها على إعمال عقله وشحذ قريحته.
وفي هذا يقول الدكتور محمد يوسف عدس: “ولا تقاس قيمة كتاب بسعة انتشاره ولا بحفاوة القراء به فحسب وإنما تقاس إلى جانب ذلك بنوعية القراء الذين احتفوا به وتناولوه بالقراءة والاستعاب ثم تقاس بعمق الأثر الذي خلفته هذه القراءة في عقولهم وقلوبهم”. لذلك فالانتشار الواسع وكثرة المبيعات وكثرة القراءات والاقتباسات وحتى حصاد الجوائز كلها ليس لها قيمة فعلية في الحكم على نجاح العمل وعلى أدب وذوق أمة من الأمم، فالأمة لازالت نفسها تهفو إلى الكلمة الجميلة الأنيقة وتستقبح اللغة الركيكة والمبتذلة ولا زالت تحن إلى ذلكم الأدب الذي يخرج لنا على شكل لوحة فنية نَحار أي الأماكن تَستحقها والذي يشغلنا بجمال المعنى أكثر ممّا يشغلنا بروعة اللفظ والمبنى.
ذلكم الأدب الجّميل الذي يحمل بين طيّاته الشخصية الوقورة والجسورة فيحمل هم الأمة قبل أن يحمل هم الوطن ويناقش قضايا المجتمع والإنسان على اختلافها ولا يخشى في سبيل إظهار الحقّ لومة لائم. ذلكم الأدب الذي يعبق بعبير العربية السّاحرة وقبله بعبير الدّين ليعلّمنا كيف نجعل من حروفنا راية نرفعها عاليا حتّى يتعلّم أبناؤنا كيف تُعشق الفضيلة والحرية.. هذا هو الأدب الذي يسمو بالرّوح الإنسانية، أمّا ما يسمّيه هؤلاء أدبا فإننا نجعله دُبر آذاننا ونقول كما قال فقيه الأدباء وأديب الفقهاء الشيخ علي الطنطاوي:
"أما قولهم هذا هو الفن فإنّي أُنكره أشدّ الإنكار، إنّ الذي أعرفه أن الفن هو الذي يبحث في الجمال بحث العلم عن الحقيقة، وأنه يدرك بالعاطفة كا يُدرك العلم بالعقل، فمن قال إنّ الجمال لا يكون إلا في الفحشاء والمنكر؟ أليس في تصوير الفضيلة جمال؟ والوفاء والوطنية والإخلاص والنُبل؟ أخَلَت كلها من الجمال، واقتصر الجمال على ما يثير الشهوة ويحرّكها! للأدب غاية هي تهذيب الطّباع وصرف العواطف إلى الخير وتنبيه الضمائر الغافلة وإيقاظ الهمم والمروءات، وما إلى ذلك ممّا يكون منه نفع النّاس".