حدَّثتني عبرات عُمْرِها عن حجم معاناتها القاسية، وهزّتني خارطة الانْشِطار والانْصِهار على حُدودِها، وحَدَّقتُ في نظراتِها الحَسيرَة فأَسَرتني لَمْعَة أحلامِها، وأَبْحَرتُ في مَرايا عُيونها فغُصْتُ في ارْتِعاش رُموشِها.
كانت تجلس كلَّ صباح على مقعدِها وتَتوكَّأ عَقارِبَ الزَّمَن المُتهالِك بإحساسٍ فريد يَجْمعُنا في محطَّات السَّفَر، فنَتجاذبُ أطرافَ الحديث ونَحْتَسي رشفات من القهوة السَّاخِنَة ثم تَمْضي الخُطى إلى حالِ سَبيلها، وكنت أَنْحَني أمام جبل شُموخِها وأَذوب من مهابتها، وأَتسلَّق ارْتِفاعَها الشَّاهِق وإحساسي بالسُّقوط في مَتاهاتِ حكاياتها يُلازِمني من القِمَّة إلى القاع، فلا أجِد ما يُسْعِفني إلا اغْتِنام لحظة الكَشْف والاعْتِراف، حيث تَتساوى مَشاعِرُنا وتَتوحَّد عاصفة الصُّعود والنُّزول فنَتحدَّث بصوتٍ مَسْموع ولا يُخْرِسنا خَريفُ الفُصول.
وسألتها: حَدِّثيني سيدتي عن حياتك، وأَخْبِريني عن حكاياتك في الماضي والحاضر، فقد مَللْت هذه الجُسور الفاصِلَة بيننا وهذه السدود بلا حدود. فابتسمَت ابتسامة باردَة لفظَها صَقيعُ آلامها منذ عهود طويلة، وارْتدَت شِفاهُها معطف أحزانها الممزَّق، كأنَّها لم تَذُق طَعْم السَّعادة بلا مَرار، ثم أجابتني بنبرة هادئة: يا ابْنَتي الصَّغيرة دَعي الماضي يَرْقُد في سلام، ففي حاضري أَحْيا ضِعْفَ الأيَّام والشُّهور، ولي في كلِّ فصل حياةٌ مختلفة بألوان ترسم على خارطَتي صُوَر هويَّتي بتقاسيم وجهي المليء بالخطوط، ولي ذاكرةٌ تُزْهِر بالأماني والأحلام السَّعيدَة، كي لا أشيخَ وسطَ مَضايِق الشِّعاب وعتمة الدُّروب.
إنَّ الكاتب الفَطِن يملك أن يُغَيِّر العالم والنَّاس بكلمة يقرأها في كُتب الأحياء أو الأموات، ويَهتزُّ لها كيانه فيُنْتِج منها آلاف الكلمات والأفكار، ويُوَلِّد من سُطورِ الماضي والحاضِر سُطورًا تَكتُب عليها أجيال المستقبل تاريخَها |
يا ابْنَتي الصَّغيرة دَعي الفصول تَتحدَّث عن حِكاياتنا وعن جذورِها الغائِرَة في أعماق ذواتِنا، ودَعينا نَنْسى أحاديثَ مَواجعِنا كي يخِفَّ أَنينُ فصولِها، ويَخْرَس قيثار الرُّوح عن نَوْح الحِداد ولا يَمْتَدَّ خَرْقُ الألم في جسد يبحث عن مِهادٍ يَسْكُن إليه النِّسيان، فلا شيءَ غير النِّسيان يُريحنا من شَقاءِ الحُروب وعَذاباتِ الانْتِظار اللامنتهي..
فأدركتُ بعد رحلتي الطَّويلة وأنا أُصْغي إلى حديثها المَوْصول بجسور مَنْفاها السَّحيق، أنَّني لن أصِل إلى مُرْتَقاها الصَّعْب وفي تَصوُّري تلك الرُّؤى التي يحملها الأطفال في مُخَيِّلتهم الصغيرة، ولن أكتشف أسرارها وأنا أَسْبَح في فضائي الضَّيق حيث تَرْتطِم أحلامي الفَتِيَّة بقِمَم أحلامها الكبيرة، وتَتحَوَّل إلى ذَرَّاتٍ تَسْحقُها مَطارِقُ حِكمتها ويُذيبها صمتُها المُطْبق، فتَتلاشَى من الاحْتِراق والتَّفَحُّم.
ولكنَّني أَلِفْتُ الصُّمود أمام ما هو مُفْجِع، وأنْ أُصْغي إلى إشاراتِ القلب الغامضة، وأترقَّب مَشارِق أنوارِ البصيرة، لذا كنت أُطيل التَّحْديق في نظراتها العميقة وأَغْرق في تَموُّجاتها، وأَتأمَّل في كلماتها المَكْتوبَة على سُطور تجاعيدِها، وأَغوصُ في خُطوطِها وغُضونِها الغائِرَة، عساني أقرأ ألغازَها وما يختفي تحت تَرهُّلات وجهها، وأَلِج أبوابها وأفتح مَغاليقَها.
وسألت نفسي: هل يملك الكاتب أن يصِل إلى الحقيقة الكاملة وهو لا يقرأ فصولَ الحِكايات المَنْسِيَّة، وما يَخْتبئ وراء الحُجب الكثيفة من خَبايا النفس وأسرارها؟ فأجابتني: إنَّ الكاتب الفَطِن يملك أن يُغَيِّر العالم والنَّاس بكلمة يقرأها في كُتب الأحياء أو الأموات، ويَهتزُّ لها كيانه فيُنْتِج منها آلاف الكلمات والأفكار، ويُوَلِّد من سُطورِ الماضي والحاضِر سُطورًا تَكتُب عليها أجيال المستقبل تاريخَها، ويتَصفَّح الوجوه ويَسْبر أَغْوارَها ويقرأ بواطِن أَسْفارها، فيَكْشِف لنا عُمْق أسرار حياتها وحقيقتها المٌحَجَّبَة عنَّا خلفَ القُشور والظِّلال وأَسْتار الغُموض، بعدها يَحْمِل القلم ليَصوغ العبارة، ويُؤلِّف المعنى في تركيبٍ مُتناسِق وأسلوبٍ جذَّاب.
وأمام هذه السيدة نسيتُ أنَّني الكاتبة ونسيت قلمي وعلبة ألواني، فصِرتُ أنا القارئة التي أَتعلَّم من أحاديثها أبجَدِيَّات القراءة، وأَنْسُج أفكارًا أُحَرِّرُها وأبعث فيها روحًا وحياةً تَتنفَّس على بياض الوَرق .
وتَعلَّمتُ كيف أقرأُ ذاتي وأُصْغي لحَديثِ روحي حين أُصْغي لحَديثِ روحِها، وأن أَشْعُر وأُفَكِّر بروحِ القارئ والكاتب، وأُشاهِد مُشاهدَة القلب الحَي والعقل اليَقِظ، وأنْ أكتب لا لأُرْضي غُروري وعِشْقي للكتابة، بل لأُرْضي ضميري الصَّاحي، فصِرتُ أكتب بحِبْر دمي لا بحِبْر القلم، لأنَّ حياة الكاتب تشتمل على كلِّ ما تقَع عليه عَيْنُه، ويَلْمسُه خَيالُه، وتُدْرِكُه حَواسُّه وعَواطِفُه، فتُعانق أعماق الحياة ولا تكفيه كي يكتب كل تفاصيلها.
وتَعلَّمتُ منها أنَّ من يكتُب عليه أن يُفَكِّر طويلا في أحاديث الناس ويؤمِن بمعاناتهم، ويكتسِب الجرأة للدِّفاع عن قَضاياهم بما أوتِيَ من عِلم وفصاحَة وبيان، وأنَّ من يكتب عليه أن يقْتات من الأفراح والأحزان، فيَهتزَّ شِرْيانه الطَّموح ويُنْجب لكلِّ فصل حقيقة تستحِقُّ البقاء والخلود في ذاكرة الأمَّة، لأنَّها من إنتاج الحياة الصَّعْبَة ومَخاضِ الشَّدائِد التي تصنع الأفكار العظيمة والكتابات الخالدَة.
فالكاتب مهما أَدْمن القراءة في الكُتب لن يصِل إلى احْتِواء الحقيقة الكاملة، إلا إذا خاضَ معارك الواقع وحارَب بسِلاح القلم في مَيْدانه، وتذوَّق طَعْم المَرار والعَلْقم وطَعْم الشَّهد والسُّكَّر، وخالطَ ألوان الحياة في السِّلم والحرب، وعَجَن أفكاره بعَجينِ الحياة وطينها، وعَركَها بآلام المتألِّمين ومَسَرَّات السُّعَداء، وطَحنَها بطَحِين الأفراح والأحزان، وسَقاها بالدَّمْع والضَّحكات.
ما الحياة إلا مجموعة من العواطف، والآمال، والأحلام، والآلام، والمخاوف، والأشواق، والأفراح، والنَّزعات، وما يَنْتاب الإنسان، وغير الإنسان، من جماد وحيوان ونبات، وما يعتريه ويطرأ عليه في هذا الوجود |
لذا حين قدَّم الكاتب والشاعر المغربي محمد الصباغ الدَّرْس الأول في تاريخ الأدَب العَربي لتَلاميذ فَصْل التَّعليم الثَّانوي، نظَر في المَنْهج المُقَرَّر ولم يَتحمَّل أنْ يُعاكِس ذَوْقَه في الأدَب ويُخالف جَوْهَره وماهِيَّتَه، فشارك إخْوانه الطَّلبة هموم الأدَب، ونفَذ معهم إلى عَوالِم أَرْحَب من عَوالِم الفصول الدِّراسِيَّة، وغاص معهم في بُحور الأدَب ومحيطاته، ليَلْتقِط دُرَرَه الكَامِنَة في زَوايا الحياة وخَفاياها، وليُخَرِج ناشِئَة الأدَب الأصيل من عَركتْهم الحياة وصَقلتْهم التَّجارب والخِبْرات، فجعلوا للأدب روحا تَرْسُم أَجْمل الصُّوَر وأَصْدق المَشاهِد، وتُبلِّغ أَصْفى المَشاعِر الإنسانِيَّة لعُشَّاق الأدَب ومُريديه.
لهذا وجَّه إليهم خطابه السَّامي في مقالته الماتعة "درس في الأدب" فقال: "ما الحياة إلا مجموعة من العواطف، والآمال، والأحلام، والآلام، والمخاوف، والأشواق، والأفراح، والنَّزعات، وما يَنْتاب الإنسان، وغير الإنسان، من جماد وحيوان ونبات، وما يعتريه ويطرأ عليه في هذا الوجود. عواطف تلك الأغصان الرَّطيبة التي تمُدُّ أعناقها إلى ضِرْع الصباح لتُدِرَّ منه حَليبًا فتَكْتسي بالنَّدى. وأحلام تلك المَوْجة التي تَغْفو على أختها في الشاطئ حالمَةً بالتَّسَلق إلى هاماتِ الجبال، ثم التَّغَلغُل في شَرايين الأرض العميقة. وأشواق تلك الصَّبِية التي فقدَت لُهاثَها في البحث عن أمِّه، ونزعات التَّربية المَتْخومَة بالأنفاس المخنوقَة، والأَصْلاب المَرْضوضَة، والأعضاء المَكْدودَة من قبل آدم إلى يومنا هذا".
وغايته من وراء هذه الجولة القصيرة في دروب الحياة، أن يضرب مثلا لتلاميذه ويُقَدِّم إليهم دَرْسا عَملِيًّا لا تَنْظيريًّا، ليتعلَّموا الأدب ذَوْقًا وحِسًّا وروحًا ومحور حياة، وهذا ما نلمسه من خطابه العميق للارتقاء بالأدب حيث قال: "إنَّ في كلِّ صفحة من صفحات دفاتركم لأسرارًا بيضاء إذا أنتم تَتبَّعتم أدوارَها وأَطوارَها وصَيْرورتَها منذ أن كانت جُذوعًا، وقبل أن تكون بُذورًا، وبعدما ستصير عليه، إني لأتخَشَّع كلَّما تَغَلْغَل خيالي في أسرار الحياة، وأريدكم أن تتَغَلْغَلوا أنتم بخيالكم في هذه الأسرار، لتشعروا بها، وتُحِسُّوها، وتعيشوها، ولتشحذ خيالكم، وتُرَهِّف أذواقكم، وتملأكم بروح الحياة، ومتى َنَفذْتم إلى هذه الأسرار، وانْبَلجَت أمامكم دروب الحياة برُوَّادها الذين صنعوا تاريخها الصحيح، لا المكذوب في أسفار تواريخ الآداب".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.