أنا لا أشجّع الانفصالات، فبعد عقودٍ من الانفصالات، اكتشفت الدول الأوروبية أن الاتحاد أقوى، جنوب السودان خير مثالٍ على عدم جدوى الانفصالات المبنية على التقسيم العرقي أو الديني |
لم أكن أعرف شيئاً عن الأكراد قبل مشاهدتي لوثائقي عن حلبجة، عن أطفالٍ أبيدوا بالكيميائي، باسم العروبة، بكيت كثيراً، ليس فقط للأطفال، بل لأنّ عائلتي لطالما صفّقت لصدام حسين وأخبرتني عن بطولاته ووقفاته المناصرة العروبة، شعرت بالخيانة يوم عرفت ما جرى في حلبجة، وشعرت بالعار والخزي، يومها اكتشفت أن أغلب الأبطال يبنون أمجادهم على جثث الأبرياء، ويومها اكتشفت أنّنا نحن، أغلب البشر، نحبّ قصص البطولات ولا نأبه للأبرياء.
كلّما تذكّرت قصص أهالي حلبجة، من نجا من المجزرة، لا أجد في نفسي العروبة الكافية لأقف وأقول لا لانفصال كردستان، أفضّل الصمت، الغريب في الاستفتاء الذي جرى هو أنّ حلبجة حصدت أكبر نسبة من أصوات الرافضين للانفصال! ما يجعلني أتردّد أكثر: من أنا لأتّخذ موقفاً مع أو ضدّ؟ وهل الأكراد اليوم أبطالٌ من دون دماء أبرياء؟ هل يستحقّون وطناً لهم على الرغم ممن مات أيضاً تمسّكاً بنفس الأرض التي يتمسّكون بها؟
أين كانت الحدود قبل السياسة؟ الحدود وفكرة الوطن هي من صنع خيال الإنسان، لا يوجد على الأرض ما يفصل الدول، لكن كلّما قدّم الإنسان تضحياتٍ من أجل هذه الفكرة الخيالية، كلّما زاد تمسكّه بها، وكلّما تحوّلت إلى حقيقة فرضت نفسها على الأرض، الحقيقة المُتخيّلة.
من منطلق علميٍ بحت، بعيداً عن عواطف العروبة، والخيال، لا يوجد توقيتٌ أفضل للأكراد لإجراء الاستفتاء، فإذا لم يحصدوا الآن نتيجة نجاحاتهم في الحرب ضدّ داعش في العراق وفي سوريا أيضاً، سيفوّتون فرصتهم، القوى العظمى تعتبرهم الحليف الوحيد ذي المصداقية والفعالية والشرعية في محاربة داعش، من جهة النتائج التي حقّقوها ومن جهة أحقّيتهم في الأرض مقارنة بميليشياتٍ طائفية من مناطق أخرى، والرفض الغربي المعلن لانفصال كردستان بدا أقرب للعتب على صديقٍ ألحّ على طلب خدمةٍ منك أثناء انشغالك بأمورٍ أخرى.
لو لم يستغلّ الأكراد هذه الفترة من الانتصارات على داعش، ومن الانكسارات في الدول العربية، ومن التذبذب الأمريكي تجاه إيران، ومن الحذر الأوروبي تجاه تركيا أردوغان، لفاتت الفرصة، فغداً عندما تنشغل بغداد في إعادة بناء الدولة وفرض سيطرتها، وينشغل الغرب في دعم جهودها، لن يسمع أحدٌ صوت الأكراد.
لا يوجد ما هو منطقي في الوطنية والتمسّك بالأرض، لكنّنا نتمسّك بها، ونبذل الدماء لأجلها، لكن لا يوجد من هو على حقّ ومن هو على باطل عندما يكون النزاع على نفس الأرض |
ومن منطلق علميٍ بحت، أنا لا أشجّع الانفصالات، فبعد عقودٍ من الانفصالات، اكتشفت الدول الأوروبية أن الاتحاد أقوى، جنوب السودان خير مثالٍ على عدم جدوى الانفصالات المبنية على التقسيم العرقي أو الديني، وعلى ضرورة أخذ الجغرافيا في عين الاعتبار، فالأرض جغرافيا وليست قوميات ووطنيات مُتخيّلة فقط، جغرافياً، كردستان لا يملك منافذ بحرية، وهو محاطٌ بدولٍ تعارض انفصاله وتبدي استعدادها لمحاربته.
لكن اليوم، وسط كلّ الإخفاقات العربية، يقدّم الأكراد أنفسهم على أنّهم النجاح الوحيد في المنطقة، وأنّ حمايتهم واجبٌ على كلّ من لا يريد مزيداً من المستنقعات في هذا الشرق الممزّق، من جهة الحصار من قبل إيران وتركيا والعراق وسوريا، فأعتقد أنّهم يعتبرونها التضحية النهائية، فأي حصارٍ ينتهي بفكّه، وأي نزاعٍ ينتهي بتسوية، أما تهديدات بغداد باستخدام القوّة لمنع الانفصال فهم لا يصدّقونها، التهديد التركي هو الذي يأخذونه على محمل الجدّ، لكن يعتمدون سرّاً على التدخّل الغربي لحقن الدماء، وعلى تقديم ضمانات لتركيا وإيران بعدم المساس بحدود البلدين وبعدم المطالبة بامتداد كردستان التاريخي.
وإذا سالت الدماء من أجل حلمهم، فهم مستعدّون لهذه التضحية، على عكس إخوانهم العرب المنشغلين بقتال بعضهم البعض عوضاً عن تحرير القدس، فهل سيتّحد العرب ويديرون ظهرهم للجنوب، على غرار حزب الله اللبناني، ويتّجهون شمالاً "لتحرير" كردستان؟
المفاجأة الوحيدة للأكراد قد تكون بتخلّي القوى العظمى عنهم نهائياً، ولا تلوح أي بوادر حتّى الآن تنذر بذلك، ودون ذلك، فهم على ما يبدو، مستعدّون لكلّ السيناريوهات القادمة، ولمعركةٍ تتطلّب نفساً طويلاً أثبتوا أنّهم يمتلكونه ويفتقر له معارضوهم.
فما موقفي؟ رغم كلّ هذا السرد، لا أعرف، هل نحتاج لأن نكوّن مواقف من كلّ شيء؟ لو كنت كردية لصوّتّت نعم لصالح الاستفتاء، ولو كنت عربية من الإقليم لاحترت كثيراً، فمن جهة سأخاف على أنني سأتحوّل إلى أقلية، ومن جهة سأنظر إلى الاستقرار الذي حقّقه الإقليم مقارنة بمشاكل المنطقة، ولو كنت عراقية أو سورية، لصوّتًت حتماً لا.
لا يوجد ما هو منطقي في الوطنية والتمسّك بالأرض، لكنّنا نتمسّك بها، ونبذل الدماء لأجلها، لكن لا يوجد من هو على حقّ ومن هو على باطل عندما يكون النزاع على نفس الأرض التي مات من الجهتين للتمسّك بها. للأكراد الحقّ في تحقيق حلمهم بوطنٍ، وللعرب الحقّ في رفض ذلك، وعندما يكون الجميع على حقّ، لا مكان للعدالة، ما سيحسم النزاع سيكون بعيداً كلّ البعد عن أيّ نوعٍ من العدالة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.