شعار قسم مدونات

ما بعد الربيع!

blogs الثورة مستمرة

انتهى الربيع!

يسيطر الأسد اليوم بفاعلية على ثمانين بالمئة من مساحة سوريا بعدما انحسرت سيطرته إلى ٣٠ بالمئة في ذروة الثورة عام 2013، في مصر أعاد السيسي إنتاج النظام المصري القديم تماما بعد توليه زمام البلاد وبمعايير استبدادٍ أعلى عوضاً عن مواقفه المؤيدة للنظام السوري والثورة المضادة في ليبيا والتنسيق عالي المستوى مع "اسرائيل"، وفي اليمن مسرحية أدّاها علي صالح وحلفاؤه من دول الخليج بحرفية جيدة للقضاء على ثورة الشباب تحت مظلة قتال الحوثي، أمّا في ليبيا فإن الثورة المضادة بقيادة خليفة حفتر تحظى بدعم دولي إقليمي وتسيطر على نفط البلاد وإن لم تتمكن حتى الآن من إسقاط طرابلس والسيطرة على كامل ليبيا فهي مع ذلك تقيم شبه دولة شرقها .

على المستوى الإقليمي تعدُّ إيران واحدة من أكبر رابحي ما بعد الربيع؛ فقد وسعت نفوذها في العراق وامتدت به إلى سوريا ودشنت طريقها إلى البحر الأبيض المتوسط (طهران – بغداد – دمشق – بيروت) كما أنها تناور في اليمن عبر الحوثيين وتجعل منهم أوراقاً سياسة شديدة الضغط على السعودية فيما حافظت على علاقات جيدة مع مصر علاوةً على استمرار تهديدها للبحرين.

بينما لا تقل أرباح إسرائيل عن إيران فاستنزاف الخزان الديمغرافي السوري على حدود إسرائيل حلم إسرائيلي قد تحقق ووجود نظام مصري يضيق على المقاومة الفلسطينية ويرفع من مستوى تنسيقه مع دولة الاحتلال أمنية أخرى تحققت وحتى التوسعات الإيرانية الأخيرة المهددة للعرب ولإسرائيل معاَ تجد فيها الأخيرة فرصة لتطبيع العلاقات مع دول محور الاعتدال العربية.

دولياً اعتادت أمريكا على غياب أي منافس لها على نفوذ الشرق الأوسط منذ انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، لكن المتغيرات الأخيرة أعادت روسيا إلى المنطقة من جديد
دولياً اعتادت أمريكا على غياب أي منافس لها على نفوذ الشرق الأوسط منذ انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، لكن المتغيرات الأخيرة أعادت روسيا إلى المنطقة من جديد

فيما تظل تركيا الأكثر تضررا في الإقليم بعد العرب، فالتنظيمات الكردية الإرهابية محظورة النشاط في أمريكا والغرب مسبقا أصبحت اليوم تعمل تحت غطاء أمريكي مطلق وفي ظل صمت روسي بأفضل الأحوال، والعلاقات التركية-السورية والتركية-المصرية في أسوء حالاتها اليوم بعد أن كانت طبيعية إلى حد بعيد قبل ٢٠١٠، فيما انحسر الشركاء الاستراتيجيون لتركيا في العالم العربي في دولة قطر .

دولياً اعتادت أمريكا على غياب أي منافس لها على نفوذ الشرق الأوسط منذ انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، لكن المتغيرات الأخيرة أعادت روسيا إلى المنطقة من جديد وبالتأكيد على حساب الوجود الأمريكي، مما يجعل حلّ أغلب أزمات المنطقة شكلاً ووقتاً رهناً لتفاهمات قطبي القوة اللذان سيفرضان حلولهما بلغة المصالح نهايةً على الأرض . 

على المستوى الداخلي العربي ربحت الأنظمة المستبدة المعركة أمام الثورات فقد عززت مواقعها من جديد وأجهضت كل إنجاز ديمقراطي للثورات وعملت في سياسات موحدة على استهداف أي فرد أو كيان أو دولة تدعم ترسيخ التجارب الديمقراطية في العالم العربي وهو ما نفذته حرفيا تجاه قطر حينما وقفت الأخيرة مع حق الشعوب في تقرير مصيرها، بينما مُنيَ الإخوان المسلمون وقوى الإسلام السياسي التي تصدرت الثورات بهزيمة كبرى؛ وبإمكان أي متابع أن يعقد مقارنة بين علاقة الإخوان المسلمين بالأنظمة قبل أحداث الربيع وبعده فقد تبدلت مواقعهم من لوائح الكتل البرلمانية إلى لوائح الإرهاب ومن معارضة يمكن التفاوض معها إلى تنظيمات تجري تصفية كوادرها وإيداعهم السجون . 

إلّا أنّ ما يتفق عليه الجميع رابحين وخاسرين أو على الاقل ما يصرحون به هو أننا بتنا اليوم أمام مشهد تراجيدي بالغ الأسى ففي خضم تلك الثورات مئات الآلاف قتلوا وملايين شردوا وحضارات أبيدت وأمن العرب القومي صار على المحك أكثر من أي وقت مضى، ووسط هذه المعمعة تقف حقيقة ثابتة تقول "على القوى السياسية التي تبادر إلى تنظيم احتجاجات الشعوب وتطويرها نحو ثورات سلمية أو مسلحة أن تدرك تماما أن خطأً تكتيكيا واحدا قد يجر البلاد نحو دوامة من الأخطار الاستراتيجية"؛ وعليه فإن أيّ دفع من الساسة باتجاه ثورات تفتقر إلى القيادات والكيانات السياسية الكفؤة من جهة وإلى الإجماع الشعبي من جهة أخرى ستكون خطيئة في حق البلاد؛ ولست هنا في صدد تقييم ثورات "الربيع العربي" الأخيرة غير أننا كنا شهوداً على إفراز تلك الثورات لقيادات سياسية غاب عنها الوعي السياسي ومارست أخطاء سياسية "ساذجة" جرّت البلاد إلى الدمار وقامرت على مصائر الملايين .

عمل الإخوان المسلمون وبقية القوى الثورية بأقصى طاقاتهم على شحن الناس للانخراط في صفوف ثورات غير محسوبة النتائج حيث وظفت سخط الناس المتراكم على الظلم والفساد لتحريكهم في وجه الأنظمة الحاكمة وحين قامت الثورات قدّمت تلك النخب نفسها كرموز قيادية لها ولما وصل بعضها للحكم فشل فشلاً ذريعا في إدارة التوازنات بين القوى المحلية والإقليمية والدولية فسقطت بذلك ثورات الشعوب في يد من يترصد فشلها وينصب لها الفخاخ ليل نهار .

موجة جديدة من الربيع ستكون أكثر فعالية وأقل دموية إذا ما تمكنت قوىً سياسةً إصلاحيةً وكفؤة من إشباع المشهد السياسي خلال الفترة المقبلة
موجة جديدة من الربيع ستكون أكثر فعالية وأقل دموية إذا ما تمكنت قوىً سياسةً إصلاحيةً وكفؤة من إشباع المشهد السياسي خلال الفترة المقبلة

وسواءً تعمدت تلك القوى السياسية جر المشهد إلى الفوضى والخراب كما تروج الأنظمة الحاكمة تخويناً للثورات، أو أنها كانت تحمل نوايا حسنة مع أدوات رديئة لم ترقى إلى قدر الموقف فإنها في الحالتين آثمة عن آخرها بتجسيدها لمشهد يُختصر في ثوّارٍ هواة وحكامٍ طغاة وشعوبٍ تُكرث، وليس هنالك ما يجنبها هذا السقطة التاريخية أقل من أن تبادر إلى الاعتراف بأخطائها السابقة وتدشن حركة تصحيحية متكاملة ترفع من كفاءتها السياسية.

موجة جديدة من الربيع ستكون أكثر فعالية وأقل دموية إذا ما تمكنت قوىً سياسةً إصلاحيةً وكفؤة من إشباع المشهد السياسي خلال الفترة المقبلة؛ قوىً من هذا النوع في المغرب العربي نجحت فعلاً في اقتناص الفرص التي ضُيّعت في المشرق، وجعلت أوطانها اليوم على عتبات تحول ديمقراطي حقيقي؛ ففي تونس استطاعت حركة النهضة البقاء في المشهد السياسي والتعامل مع متغيراته باحتراف مصلحي ولا شك في أنّ غياب الدموية عن الدولة العميقة هناك كان عاملاً شريكا في صمود الدولة وصمود التجربة.

 

وفي المغرب شكل وعي حزب العدالة والتنمية السياسي وولاءه العميق للدولة وبنيتها السياسية مع انفتاح الملك المغربي على التوجه الإصلاحي عاملاً مساعداً لوقوف الدولة على أعتاب تحولات إصلاحية مهمة. ولعل النهضة مع العدالة والتنمية هما فقط من خرج بأوراق رابحة بعد انقضاء الربيع بل إنّهم على الأرجح تمكنوا من إطالة أمد ربيع المغرب العربي جاعلين منه نموذجا إصلاحياً قد يحتذى يوماً في مشرق العرب.