لا تكتفي الأنظمة المستبدّة بإفشال الثورات وتشتيت المعارضين وتشريد المتمرّدين وقتلهم وسجنهم وتهجيرهم فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى إعادة تصميم معارضة على المقاس، وانتقاء معارضين من نوع خاص يمكنهم أن يعملوا لخدمة النظام الذي يعتقدون أنّهم يعارضونه، فتأتي أجهزة المخابرات وأذرع الدولة العميقة بأشخاص يحملون خمائر معدّة مسبقا لتكون جاهزة للعجن مثلما تشاء الأنظمة، عادة ما يكون هؤلاء من طبقة "كيوت" يضجّون ولا يفعلون، يشعّون نارا من بعيد حتّى إذا لمستها وجدتها باردة لا تحرق، مجرّد رسوم متحرّكة على شاشة عملاقة تشتغل وتنطفئ بكبسة زرّ.
هؤلاء المعارضون يؤمنون بأنّ النظام يمكن أن يسقط بمجرّد أن يقفوا في ساحة عمومية وهم يحملون لافتات مكتوب عليها باللغة الأجنبية عادة عبارات تمجد الديمقراطية وتطالب بحقوق الإنسان، يقفون ساعات في الظل ثم يدخلون المقاهي المرفّهة وليست الشعبية بعد أن يلتقطوا صور السيلفي وينشرونها في مواقع التواصل الاجتماعي، ظانّين بذلك أنّهم زعزعوا أركان السلطة.
في كثير من الأحيان تكتسح الحركات النسوية "الفيمينيزم" الساحة السياسية باعتبارهم معارضين وممثلين عن المجتمع، فتخصص مساحات الدعاية والترويج حتّى تقتنع الجماهير بأنّ هؤلاء يواجهون الأنظمة، فيفقدون الثقة في العمل السياسي والتغيير من أساسه |
سمعت عن رئيس حزب "كيوت" في بلدي بعد أن أنهى تسجيل حوار تلفزيوني كيوت مع صحفي كيوت يرتدي قميصا ورديا أنّه قال لمرافقه أنّ الرئيس لن ينام الليلة لمّا يسمع ما قلت، قالها معتقدا فعلا أنّه قاد ثورة مظفّرة ربّما ظنّها ثورة ملونة كقميص محاوره، تخيّلوا! وقبل أشهر نزلت مجموعة من الأشخاص والسيدات النواعم في وقفة احتجاجية ضدّ قناة مقرّبة من الرئيس للتضامن مع كاتب من المثقفين "الكيوت" لأنّ تلك القناة أساءت له -حسبهم- فنزل شقيق الرئيس ليؤازرهم ضدّ القناة المقرّبة من أخيه، لم يقف الأمر عند هذا الاستخفاف الهزيل بل أنّ صوتا ناعما ارتفع من بين الصفوف وهو يرطّن بالفرنسية "دكتاتوغ دكتاتوغ ديڨاج" بمعنى ارحل يا دكتاتور، وشقيق الرئيس يبتسم، تعلمون لماذا؟ لأنّه يعلم أنّ النواعم لا يهدّدون سلطته!
في الجزائر ومثلها في باقي البلدان العربية لاسيما بعد الثورات ألفنا رؤية كثير من هذه النماذج الناعمة لأشخاص يقدّمون أنفسهم وتقدّمهم وسائل الإعلام على أنّهم معارضين وثوّارا وقادة رأي، في وقت تُغيّب الشخصيات الكاريزماتية الحقيقية ويتمّ الالتفاف على أنشطتها وتدفن مبادراتها تحت حُجب التعتيم والتجاهل تارة، ويرمى أصحابها في غياهب السجون السرية تارة أخرى، وفي أحسن الأحوال تفبرك لهم التّهم المعلّبة وتشوّه سمعتهم وأخلاقهم بطريقة ممنهجة لتنزع عنهم الأنظمةُ الرمزيةَ الثورية وتحلّ محلّها صورة مهشّمة لرجال كُسرت شوكتهم وانتُهكت حرماتهم وديس على وجوههم بالنعال.
في كثير من الأحيان تكتسح الحركات النسوية وأعضاء جمعيات الفيمينيزم والمتعاطفين معها الساحة السياسية باعتبارهم نشطاء ومعارضين وممثلين عن المجتمع المدني وهلمّ وصفا، وتبسط لهم الموائد المستديرة وتحوطهم الميكروفونات وعدسات الكاميرا وتخصص لهم أعمدة الصحف مساحات للدعاية والترويج حتّى تقتنع الجماهير بأنّ هؤلاء هم من يواجهون الأنظمة فيفقدون الثقة حينذاك في العمل السياسي والتغيير من أساسه، وتجتهد السلطة في إذكاء تلك النزعة السلبية وتغذيتها من خلال التلاعب بهؤلاء المعارضين "الكيوت" والعبث بهم ليظهروا في مظهر المهرّجين الغوغائيين الذين لا يجيدون سوى الصراخ والعويل وترديد عبارات سيمون دي بوفوار، وبرنار ليفي، وميشال أونفري بابتذال مشين، وإذ ذاك تخرج جحافل الإعلاميين الموالين للأنظمة لتسحق فيلق المعارضة "الكيوت" بعد أن ينتهي دورها ثم تختلق مثلها بعد حين.
يستغرب النّاس كيف يشتهر هؤلاء وتسلّط عليهم الأضواء وينالون في غضون أشهر من الاهتمام والمتابعة ما لم ينله معارضون راديكاليون أفنوا عقودا في مواجهة الاستبداد وتقلّبوا على إسمنت زنازينه وصالوا في السجون وجالوا في المحتشدات ثمّ كان جزاؤهم الجحود والنكران لتضحياتهم، بل والإهانة والإذلال من أبناء الشعب ذاته، وهكذا تنطلي الحيلة على السواد الأعظم من الناس، في حين يجد المتمعّن في سياسات الأنظمة أنّ العصف الذهني الذي تمارسه وسائل إعلامها هو الذي يحدث هوّة سحيقة بين الواقع وما يراد أن يظنّه الشعب واقعا.
أفلحت المعارضة "الكيوت" في تتفيه السياسة وتسفيه الثورة وتمييع مفهوم التغيير الجذري وتعميق الشرخ بين من يعمل بجد من أجل التغيير وعامّة الشعب |
فالسلطة في الأصل هي من تصنع طبقة المعارضين اللّطفاء إن صحّ التعبير، وتدعمهم وترسم لهم الخطط والخطوط التي لا يجتازونها في مقابل إشباع شهوة النجومية لديهم، وذاك هو حدّ أحلامهم التي لا تحتمل معاني النضال الحقيقي والمعارضة الصلبة التي تنبني على ثنائية الإيمان والشجاعة، وتقوم على أسس نصرة الحقّ والدفاع عن المظلومين وتحقيق العدل والكرامة، وتحتمل في لبّها معاني التضحية والكفاح والمغالبة على الأرض بدلا عن ترديد الشعارات الجوفاء التي لا تقدّم إلا الأمل الزائف والوعود الكاذبة.
المعارضة الكيوت في الوطن العربي موضة سياسية طال خداع الناس بها، وأضحت تمثيلية مثيرة للغثيان لسماجة أصحابها وبلاهة الداعين لها وسذاجة المفتونين بروّادها، هنا أفلحت تلك المعارضة في تتفيه السياسة وتسفيه الثورة وتمييع مفهوم التغيير الجذري وتعميق الشرخ بين من يعمل بجد من أجل التغيير وعامّة الشعب، وللمفارقة يدّعي هؤلاء أنّهم معارضون وهم يرتعشون لمجرّد كتابة بيان أو منشور جريء، ترتعش أرجلهم وتكاد تقفز أفئدتهم من حناجرهم إن وصلتهم إشارة تفيد بغضب المسؤولين عليهم فيسارعون إلى محو المنشور وكتابة بيان توضيحي بعده، ربّما لم يستوعب هؤلاء ومريديهم لحد الساعة معنى أنّ "للحرّية الحمراء باب .. بكل يد مضرّجة يدقّ".
إن أردنا الانعتاق علينا أن نغسل أيدينا من معارضات النواعم أوّلا، فالتغيير يأتي بالسواعد القويّة لا بأظافر مطلية بألوان زاهية… فلنعتبرْ!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.