شعار قسم مدونات

صديقتي الوفية

Blogs- friends

تتهادى الذكريات إلى مخيّلتي وتُحلق بعيداً إلى زمنٍ لم نكن نفهم فيه شيء سوى التّوقُ لِلّعب والانطلاق الجميل الذي يأخُذنا إلى سِحر الخيال والحُب بعيداً عن وجه الحياةِ المُظلم والقاتِم. عالم الطفولة يمر أمامي كشريط سينمائي بألوان وأشكال مختلفة، تاركاً الأثر على وجْهٍ يحملُ كُلّ الحنين لأصدقاء الطفولة الأوفياء، وعالم البراءة الذي لم يَخْدِشنا بهمومٍ أو حسرة سِوى عندما يحين وقت النّوم للاستيقاظ مبكراً إلى المدرسة. 

     

في مكانٍ ما من الفؤاد، هنالك أُناسٌ يُحظَون بمَنزِلةٍ رفيعة وحب أبديّ لا يُمَسّ بمكروه مهما خذلتنا الظروف. في زمانٍ ومكانٍ غير الذي نحنُ فيه، التقيت بمحض الصّدفة، ليس إلا ببنت اسمها إسراء عِراقيّة الجنسية من مدينة سامراء. فتاةٌ حسناء، وشعرها أشقر يتهدّل حول الرأس وفوق الجبين، وعيناها واسعتين محيّرتين بين اللون الأخضر والأزرق، فيهن من الجمالِ ما لا تَصِفه الكلمات. لا يفصل بيني وبينها سوى بضعة أشهر، كنّ حافزاً لإقامة صداقةٍ متينة لا تشُوبها أي من المُنغّصات. 

      

عائلة إسراء هم الجيران الجُدد وباب بيتهم أمام باب بيتنا حيث يفصلنا عنه ممر يبلغ من الطول بضعة مترات. هذا الممر كان الشاهد على كل اللّحظات المُبهجة التي قضينا فيها سنين لا تُنسى محفورةً في الذاكرةِ طويلة الأمد التي لا تفلِتُ مِني لِوهلة. تبادلنا السلام على استحياء كما يحصل دائماً في اللّقاء الأول، وبعدها انفلتت عقدة اللسان وبدأنا أحاديث مُطوّلة قضينا فيها ساعات وأيام كانت جَديرة ببناء الثقة بين فتاتين حديثتا المعرفة ببعضهما البعض. لم نكن مِثل أترابنا نتخاصم عند صغائر الأمور، بل كنا نغفر لبعضنا ونقلب المشاكل إلى فُكاهة لاذعة لتلافي الخصام والبُعد الذي كان بمثابة كُفراً لا يطاق. كُنّا سيدات أنفسنا، نجوس الطرقات ونفتّش عن كل زاوية ومكان ونستكشف عوالم لا تخطر على البال.

            

الهدايا، هي الشيء المميز الذي لا استغناء عنه حيث كنا نتبادلها في أي وقت وبأبسط الأشياء من غير تكلف. هي فقط حافزاً معنوياً وشيء جميل يُضاف إلى صداقتنا
الهدايا، هي الشيء المميز الذي لا استغناء عنه حيث كنا نتبادلها في أي وقت وبأبسط الأشياء من غير تكلف. هي فقط حافزاً معنوياً وشيء جميل يُضاف إلى صداقتنا
         

كانت الأعياد هي المواسم الزاخرة بالأحداث المشوقة والممتعة. صباح العيد لا يفوح منه سوى رائحة الفضول ولا يحثّ إلا على تبادل الأسئلة الكثيرة التي تبقى معلّقة في الهواء. كل واحدة منا ترمُق الأخرى بنظراتٍ ثاقبة لمعرفة كافة التفاصيل على ملابس العيد الجديدة التي أخفيناها عن بعضنا بقصد المفاجأة. كان بقرب منزلنا مطعم تُباع به الوجبات السريعة ومخبز به الفطائر بأنواعها وأصناف حلويات شهية. نُخرج العيدية ونصرف منها ما نشاء. نأكل كثيراً كما يحلو لنا وبعد وقت اللعب نشعر بأن معدتنا فارغة تماماً كأننا لم نتناول شيء فنعاود الكَرّة وهكذا حتى تنقضي أيام العيد. 

        

أما الهدايا فهي الشيء المميز الذي لا استغناء عنه حيث كنا نتبادلها في أي وقت وبأبسط الأشياء من غير تكلف. هي فقط حافزاً معنوياً وشيء جميل يُضاف إلى صداقتنا. كنا نتربع بجانب بعضنا ونخرج الأوراق وطلاء الأظافر ونبدأ نرسم ونلوّن، وكلّ واحدة منا تُهدي ما رسمت للأُخرى في نهاية الأمر. السعادة التي كانت تغمرنا كطفلتين كفيلة بأن نشعر أننا سنبقى أصدقاء للأبد. 

           

مرّت عائلة صديقتي بظروف ليست سهلة الحل وللأسف الشديد انتهى الحال بانفصال أبيها عن أمها ومرورهم بسلسلة من المُعضلات المعقّدة التي اختُتِمت بتنازل أمها عنها وعن أخوتها لأبيها الذي يقطن في سامِرّاء. لمْ نكن نفهم ما تعنيه بالتفصيل في ذلك العمر. صَعْبٌ هو عليّ التسليم بحقيقة هي أن أمها تركتها لقدرها تُواجِهه بِنفسها. وأيّ قلب يُفرّطُ بِجمال كهذا! لقد تركتهم أمهم ليقلّهم أخيهم الأكبر إلى العراق لأكابد مشقة الفراق والوداع المُوْحش. كنت طفلة ولم أكن أعي تماماً كيفية مواساتها. فقط قلت لها بأننا نحن أيضاً سنسافر إلى غزة. 

              

انقطع الاتصال بعد سنتين تقريباً، وغادرنا نحنُ أيضاً البلاد التي كنا نسكنها، حاولت مراراً بعد ظهور وسائل الاتصال الحديثة أن أبحث عنها وبالأخص عن طريق الفيسبوك، لكن دون جدوى!
انقطع الاتصال بعد سنتين تقريباً، وغادرنا نحنُ أيضاً البلاد التي كنا نسكنها، حاولت مراراً بعد ظهور وسائل الاتصال الحديثة أن أبحث عنها وبالأخص عن طريق الفيسبوك، لكن دون جدوى!
          

شقشق الفجر وطلع النهار، وحان وقت السفر. أتذكر آخر ساعات قبل الرحيل وسط الذهول والوجومِ. كان صمتي عميق ودمعة هي حبيسة في العين تكاد تنفلت وبعدها أجهش ببكاءٍ متواصل. لم أنبس بكلمة واحدة. كنت محطمة ومتخمة بالقلق ووجهي غارق في الحيرة. شعرت نفسي غريبةٌ عنها عندما ودّعتها. لم أودعها وداعاً يليق بالحب والود الذي كان بيننا. يبدو أن الوداع هكذا. ألقينا على بعضنا سلامٌ مُتلعثم ولوّحتُ لها بيدي وهذا كل شيء.

          

بعد السفر كان التواصل معها يكون عبر الهاتف. أتذكر أنها أرسلت لي بعد سنة نَصّ رسالة تُطمئنني بها على نفسها. عندما قرأت الرسالة شعرتُ بأن اللغة غريبة حيث كانت لها القدرة على تدبيج الكلمات وحشوها بجُمل لا يتكلّمها إلا الكِبار. لقد عرفت السبب، هي الآن وسط عائلتها كُلّها والأجواء مُشجعة لتتكلم بلهجةٍ هي أكبرُ من عُمرها، أو غير مألوفة على ما اعتدته منها سابقاً.

          

انقطع الاتصال بعد سنتين تقريباً، وغادرنا نحنُ أيضاً البلاد التي كنا نسكنها وتوجهنا إلى غزة إلى موطننا الجميل. حاولت مراراً بعد ظهور وسائل الاتصال الحديثة أن أبحث عنها وبالأخص عن طريق الفيسبوك. كنت أكتب اسمها باللغة العربية فلا تظهر نتائج، ثم مرة أخرى باللغة الإنجليزية، مرة أتبع اسمها باسم أبيها، ومرة أخرى باسم عائلتها ولكن بلا جدوى. مرة واحدة وجدت اسمها وكان على الصورة الشخصية صورة طفل يشبهها تماماً. خُيّل لي أنها تزوجت وأن هذا ابنها، وبكيت من شدة الفرح فأرسلت رسالة ولكن لم يصلني رد فتأكدتُ بعد مدة أنها ليست هي. 

                 

أتخيل المشهد كالتالي، فتاتان كانتا تَنعُمان بحياةٍ رغيدة بسلام الله، وانتقلت كل واحدة منهما إلى قدرها، تُجابه الحياة بكدرها وتصقل شخصيتها لِتُوائم منعطفاتها
أتخيل المشهد كالتالي، فتاتان كانتا تَنعُمان بحياةٍ رغيدة بسلام الله، وانتقلت كل واحدة منهما إلى قدرها، تُجابه الحياة بكدرها وتصقل شخصيتها لِتُوائم منعطفاتها
        

سُؤال هُو دائما يصول ويجول في رأسي ويشدّه كثيراً إلى حد الألم وهو كيف حال إسراء؟ أهي بخير؟ ألا زالت على قيد الحياة بعد كل الحروب والأزمات التي عصفت بالعراق؟ أنا أتخيّلها تسأل السؤال ذاته ألا زالت غادة على قيد الحياة بعد الحروب البائسة والمُفزعة التي حلّت على غزة؟

                

أتخيل المشهد كالتالي، فتاتان كانتا تَنعُمان بحياةٍ رغيدة بسلام الله، وانتقلت كل واحدة منهما إلى قدرها، تُجابه الحياة بكدرها وتصقل شخصيتها لِتُوائم منعطفاتها، في بلدين تُحسب لحظات الفرح فِيهما ضربٌ من الشذوذ الاجتماعي. في بلدين، البشر فيهما ليسوا شيئاً سوى أرقام تُعدّ وتُحصى. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.