من المؤسف كل ما نقرأه يوميًا على مواقع التواصل الاجتماعي، من مواقف يعبّر فيها الأفراد عن ضيقهم من الفجوة الكبيرة الموجودة بينهم وبين الأهل. هذه الفجوة التي تتسع تدريجيًا لدى البعض، لدرجة تصل إلى الخوف الشديد، والكراهية في بعض الأحيان.
قبل أن أكتب هذه التدوينة، قرأت منشور لفتاة تتحدث أنه حدثت لها مشكلة معينة في الجامعة، وكانت النتيجة أنها رسبت في واحدة من الاختبارات، ورغم أنها تعلم بكونها مظلومة، لكنها لم تجد في نفسها القدرة على أن تخبر والديّها بهذا الأمر، اضطرت إلى الكذب وأخبرتهما بأنها نجحت. هذا المثال رأيته كثيرًا، باختلاف الموضوع الذي يضطر فيه الأبناء إلى الكذب، لكن النتيجة أنك تجد العديد من الأسرار التي لا يعرفها الأهل عن أبنائهم، لأن الأبناء يعرفون أن ردود أفعال الأهل لن تكون جيدة عليهم، في الوقت الذي يحتاج فيه الابن في الأساس إلى الحنية، لكنه لا يجدها، بل أحيانًا يجد النقيض تمامًا في رد الفعل.
هذا الأمر يدفعني إلى التساؤل.. ماذا حدث للعائلة؟ متى أصبحت هذه الفجوة هي الأساس؟ ولماذا أجد نسبة كبيرة ممن حولي يقرّون بأن مشكلتهم الأساسية هي غياب التفاهم بينهم وبين الأهل؟ وأن الأهل دائمًا يرون أبناءهم مخطئين، لدرجة تجعل الحوار مفقود دائمًا بين الطرفين! ما أعرفه هو أن الحوار هو اللغة التي تبني العلاقة بين الأبناء والأهل، فالطرفان يكتسبان الثقة من الحوار، لكن ما نراه هو غياب كامل للحوار. للأسف، يرى الأهل أنهم يعرفون مصلحة الابن على الدوام، وهو مطالب بأن ينصاع لأوامرهم دون أي نقاش، فهم الأكثر خبرة في الحياة، ويدركون ما لا يدركه هو من التجارب.
لن أختلف مع مبدأ قناعة الأهل بأنهم يريدون مصلحة الابن، لكن الحقيقة في رأيي، هو أنه أردنا ذلك أم لم نرد، فلكل شخص حياته الخاصة، وهذا الابن لن يظل دائمًا على قبوله بالخضوع. بل إنني أؤمن أن الخضوع يخلق إنسانًا هشًا، لا يمكنه التعايش في المجتمع، يخلق شخصًا بدون شخصية خاصة به. في حين أن الصواب هو أن يكون دور الأهل هو خلق شخصية حقيقية للابن، لذلك أرى أن الحوار بينهما يفعل ذلك، فهو يساعد الأهل على توجيه الأبناء، لكن دون أي إجبار على اتّباع ما يريدونه، فتكون حرية الاختيار دائمًا مكفولة للابن، يقرر ما يريده بمساعدة الأهل، وهو الحل الصحيح.
ماذا حدث للعائلة؟ أظن أن المشكلة بدأت عندما تم التركيز على الماديّات فقط، فلا نجد أن الأهل يخضعون لأيٍ من التثقيف في مسألة التربية قبل الزواج، لا سيما مع التقدم الرهيب في الوقت الحالي، والذي يجعل من مهمة التربية أمرًا صعبًا بالتأكيد، وهو ما يعني المزيد من التحديات. لكن لا أحد ينظر إلى الأمر بنظرة شاملة، فتجد قناعة سائدة أن الأهل يربوّن أبناءهم كما تم تربيتهم، ومن هنا تنشأ المشكلة، لأن الحقيقة أن لكل طفل شخصيته، وبالتالي من الصعب أن تكرر معه نفس الخطوات، ثم تتوقع نتيجة مشابهة.
كلما فقد الأهل إدراكهم لقيمة التربية الحقيقية، وجهلهم بالأثر المعنوي على التربية، وعدم قدرتهم تلبية احتياجات أبنائهم، ستظل الفجوة تتسع بين الأهل والأبناء، للدرجة التي لا نريدها أبدًا، وهي أن يكون هناك أبناء يكرهون عائلتهم. العائلة تحتاج إلى إعادة بناء من جديد، أن يحاول الأهل فهم أبنائهم، وبناء حوار حقيقي بينهم، مما يؤدي إلى خلق ثقة حقيقية بين الطرفين، والتي هي مفتاح نجاح العائلة في رأيي.
البداية يمكن أن تكون بالخطوات التالية:
1- تقبل الأهل للأبناء بكل ما فيهم، ومحاولة بناء جسور من الثقة المتبادلة، مما يشجع الابن على مشاركة ما لديه مع الأهل.
2- تقبل الأهل لفكرة أن الابن له شخصية خاصة به، ومن ثم التجاوز عن فكرة التحكم المطلق في كل أفعاله. ومن الناحية الأخرى، تقبل الأبناء لمنطق الخوف الموجود لدى الأهل، وذلك يأتي من خلال الحوار.
3- أن يحصل الابن على فرصة للخوض في تجارب مختلفة، بدون الشعور بأنه خائف من رد فعل أهله، بل يجب أن يقدم الأهل النصيحة للأبناء دائمًا. هذا الأمر سوف يزيد من ثقة الابن في ذاته كثيرًا.
4- أن يدرك كل أطراف العائلة أن الرابط بينهم ليس رابطًا ماديًا فقط، بل توجد روابط معنوية كثيرة، وبالتالي يجب أن يهتم كل طرف بتقديم الدعم المعنوي للآخر باستمرار.
5- التشجيع المستمر للأبناء، بعيدًا عن وصفهم بالفشل أو الغباء أو العقاب على الأشياء التافهة، لأن هذا يزيد من المشكلة، وإن كان الطفل غير قادرٍ على النجاح في دراسته، فوصفه بالفشل لن يغيّر هذه الحقيقة، بل قد يزيد من نسبة الفشل. في حين أن مساعدة الأهل قد تجعل موقف الابن يتغيّر للأفضل. وبالقياس يمكنك أن تنظر إلى بقية الأشياء في حياة الأبناء.
6- على الأبناء تقبل الاختلاف في التفكير مع آبائهم، وبالتالي تقبل عقلية الأهل، ومحاولة تغيير هذه العقلية تدريجيًا، فلا ينبغي للأبناء التسليم بمواقف الأهل معهم بدون محاولة وسعي مستمر.
7- قد تكون المشكلة أحيانًا في طريقة تعبير الأبناء عن ذاتهم، وبالتالي يجب على الأبناء التركيز على عرض ما لديهم بالطريقة التي تناسب الأهل، وتجعلهم يفهمون أهمية ما يقوله أو يريده الابن.
هذه بعض الحلول البسيطة التي يمكنها أن تنهي الفجوة الحالية، وبالتأكيد توجد العديد من الحلول الأخرى، بل إن هناك دورات وكتب متخصصة في هذا الأمر. لذلك، أسألكما إن كنتما مقبلين على الزواج، أو تزوجتما بالفعل وعلى طريق الحصول على ابن، أو حتى تملكان أبناءً في الوقت الحالي، فالفرصة ما زالت متاحة، والطرق لفهم أساليب ووسائل التربية كثيرة جدًا. كل ما يحتاج إليه الأمر هو البحث عن المصدر المناسب، وإدراك أن العائلة هي الشيء الأهم الذي يجب أن يحافظ الشخص على جمع شمله طوال الوقت، فإن نجحنا في فعل ذلك سويًا من كل أطراف العائلة، فإن هذا أفضل ما قد يحدث لنا على الإطلاق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.