شعار قسم مدونات

فراقنا مر.. يا رفيقي!

Blogs- feiiends

دارت بي الدنيا دائرة معارفها فخالطت أناسًا على أشكال وطبائعٍ مختلفة، الأمين، والكريم، الخائن، والبخيل، الغني والفقير، وعن معايشة ومجانسة لم يبقَ في قلبي عالقًا إلا فئةٌ لها من النور ضياؤه، ومن المسك رائحته، ومن القمر جماله ورونقه. في هذه الفئة حائط أستند عليه في مِحنتي، وملجأٌ أكنَفُ إليه في عُسرتي، فيها مُتسعي الذي أبوح فيه كما يبوح الشادي في السماء، هذا هو رفيقي المحمود، مَن تُسعفني كلماته، وتهديني أرائهُ، القلب الذي ليس كمثله قلب.

       

كانت نشأتنا ريفية بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، ريفيو الهوية والطابع والعادة، نستيقظ فيمر أحدنا على الآخر نذهب سويًا للعب صباحًا ثم القيلولة ظهرًا -في مسجدنا- التي دائمًا ما كانت تنقضي في الحفظ والمراجعة للكُتّاب، فإذا جاء العصر فهو ميعاده، وعلى عَجلةٍ كنا نُنهيه، ثم نتبعه بالكرة حتى يُأذن للمغرب، وبعد العشاء ربما هي كرة مرة أخرى، أو هي الغُميضة، أو لا هذا ولا ذاك فهي مُشاهدة التلفاز.

            

حتى نهاية الدراسة الابتدائية، كانت هذه عقليتنا، عقلية طفلين من الريف المصري، يلتهيان باللهو واللعب، ويفرحان بالبعد عن المدرسة، ويذهبان للكُتّاب ذهاب المَضني عليه المُجبر، فلم يكُن حينذاك إلا خانة تُسد، طلبًا لرضى الوالدين، فلما كانت الإعدادية، تفتحت أعيننا سويًا على المجتمع انفتاح النقد والتفكير، وهيأت لنا تلك الطريق الواصلةُ منزلنا بالمدرسة في البلدة المُجاورة، فدائمًا ما كنّا نثير نقاشاتنا التي لم نكن نسقط عليه الضوء إلا من ناحية واحدة بحكم صِغرنا.

                        

أتذكر أنه دائمًا ما كان الواحد منا ينقد رغبات الآخر وأحيانًا يسخر منها، فإذا ما أوشكنا على الوصول لباب المدرسة، تصافينا وأقر كلٌ منا بضرورة احترام الآخر ورغبته وكأن شيئًا لم يكُن
أتذكر أنه دائمًا ما كان الواحد منا ينقد رغبات الآخر وأحيانًا يسخر منها، فإذا ما أوشكنا على الوصول لباب المدرسة، تصافينا وأقر كلٌ منا بضرورة احترام الآخر ورغبته وكأن شيئًا لم يكُن
           

كان صديقي دائمًا ما يسرد لنا حبه للدكتور مُصطفى محمود، وكنت أنا دائمًا ما أمدح الكيمياء وأعبر عن حبي لها، ولعلّ ما فتّح عقولنا ارتباط شقيق رفيقي بالقراءة والكتابة، فمكنا لنا أيضًا الاطلاع على كتيبات كان لها الأثر الأكبر في نشأتنا الخاصة، ككتاب "حوار مع صديقي المُلحد" أتذكر أنه دائمًا ما كان الواحد منا ينقد رغبات الآخر وأحيانًا يسخر منها، فإذا ما أوشكنا على الوصول لباب المدرسة، تصافينا وأقر كلٌ منا بضرورة احترام الآخر ورغبته وكأن شيئًا لم يكُن.

         

على هذه الحال كانت الاعدادية، تمرد يحركه العقل الذي انغمس في بحر القراءة والكتابة مُبكرًا، وتفكيرٍ منطقي ينتجه النقاش الصباحي، ورغبة مؤصلة بالوصول والانتصار، نشأة -أراها- غير تقليدية، فلا سياج لها، ولا حدود، طفلان على مشارف الخامسة عشر، يتحدثان عن الهوية الريفية الحقيقية، وعمّا آل إليه الوضع آنذاك، إذ كانت البناطيل الضيقة، التي يسقطها الشباب هي الموضة التي أُصيب بها المجتمع الريفي فكانت له مقتلًا وبداية انهيار.

           

إلى أن كانت المرحلة الثانوية، حيث الحديث عن الأحلام، وضرورة التعليم، وكيف أننا لن نبلغ مرادنا إلا به، فلا المال بكثرة نملك، ولا نحن ممن يرغبون جمعه، كانت هذه أولى مبادئنا وقتها -أتذكر ذلك كأنه البارحة- من هنا أيضًا كانت بداية ارتباطنا بالأدب العربي سويًا، اقتربنا من سير الأدباء وحيواتهم، لكن على حياءٍ وخوف، ربما لأن هويتنا العربية لم تكتمل بعد، ومضى العام والثاني، حتى درسنا كتاب "الأيام" لطه حُسين، وما أدراك ما حالنا وقتها!

        

كان الطلاب معظمهم يلعنون فيها ليل نهار، وربما بكى بعضهم من صعوبتها، غير أني ورفيقي كنُا نتغنى بتعبيرات طه الفريدة وأسلوبه المُميز، تغبطنا ألفاظه الجميلة، وتبهجنا عباراته الموزونة الرنانة، تبادلنا فيها الأسئلة والنقاشات، لا أنكر أنها كانت البوابة الرئيسة لدخولنا إلى الأدب واللغة بشكل قاطع، إلا أننا بعد فترة عاودنا نقدها واللوم على طه في بعض كلماته ومبالغاته كأنه ثالث يرافقنا، نعم كنا بهذه الجرأة ولازلنا.

         

كانت أهدافنا المشتركة هي ما تزيد أواصر المحبة بيننا، وهي التى تدفعنا على الاستمرار، إن لرفيقي في قلبي وقفاً بالحب والإخلاص، شعورا لا نهائي لا تكفيه كلمة ولا قصيدة في باب الصداقة
كانت أهدافنا المشتركة هي ما تزيد أواصر المحبة بيننا، وهي التى تدفعنا على الاستمرار، إن لرفيقي في قلبي وقفاً بالحب والإخلاص، شعورا لا نهائي لا تكفيه كلمة ولا قصيدة في باب الصداقة
            

وسط عبث مُشاع بين الطلاب، وطمث للهوية، وضياع للغة قضينا الثانوية، الفترة التي شكلت من حياتنا معظمها، إذ أننا الآن أكثر قربًا من الأدب العربي، واللغة، نجلس بعد صلاة الفجر في شرفة رفيقي التي تطل على حقول الذرة، ونتحدث عن نجيب محفوظ عن حبنا له ولقصة حياته، عن أدبه ورواياته الواقعية، عن مي زيادة ومحبيها، عن حجة العرب الرّافعي وغيرهم كُثُر، يُدار حديثنا فنأخذ من كل عصر نبذة، عن الأئمة، كالشافعي وابن حزم، ومحيّ الدين ابن عربي، وجلال الدين الرومي، وغيرهم -رحمهم الله- نتصور الأحداث ونعيشها ونتخيل لو أننا كنا معهم كيف سيكون موقفنا وما مدى فرحتنا لو عشنا معهم يومًا كاملًا!

          

إننا نحب الكتابة على نحو غير محدود، على نحو يصيبك بالعجب، نحب اللغة والأدب، ونجد فيما نكتب سعادة وطمأنينة، فرحة غير مشروطة تصنعها الكتابة لنا، تعبير عن الذات وتصوير للواقع والخيال، مساواة بين حلم وحقيقة، هذه هي الكتابة بالنسبة لنا -أنا ورفيقي- ولكننا نعاني من الثقافة العرجاء، والذين يؤولون كلماتنا على هواهم، دفاعنا عن اللغة العربية -الهِوية الإسلامية- هو ما يزيد أواصر المحبة بيننا، وأهدافنا النبيلة المُشتركة هي التي تدفعنا على الاستمرار، إن لرفيقي في قلبي وقفًا بالحب والإخلاص، شعورًا لا نهائي لا تكفيه كلمة ولا قصيدة في باب الصداقة.

            

غير أن الزمان -كعادته- فرق بيننا وربما انتصر هذه المرة، فرغم هذا التقارب إلا أنني أكبر رفيقي بعام، وهذا ما جعلني أتركه في الريف، وأكون في المدينة حيث الجامعة. يا رفيقي إنني أشتاق إلى جلساتنا الفجرية، إلى حديثنا عن اللغة، عن الأدب، أشتاق إلى جلسة ننقد فيها ذاتنا ونضحك، نضحك على أشيائنا البسيطة، أشتاق إلى لقاء نلعن فيه المسافات، ونؤكد أن الزمان والمكان عائقٌ جسدي فقط وأننا نلتقي كل يوم في قلوبنا وأننا أكبر من أن نهزم، أو نستسلم.