في تدوينه سابقة، كنتُ قد تحدّثت عن المعرفة روح المعركة وسلاح المستشرقين الجدد، وتطرّقت من خلالها إلى مسألة الاستشراق المتجدد، أهدافه وغاياته المتجددة لدى الغرب، ودور مراكز الفكر الغربية – باعتبارها أحد أدوات الاستشراق في الألفية الثالثة- في تسويق معرفة متحيزة تريد من خلالها تجسيد واقع جديد في المنطقةِ العربية. ومنذ البدايات الأولى للاستشراق في القرون الوسطى إلى غاية اليوم، بقي غالباً الدافع الديني هو السبب الأول للاهتمام بالإسلام ودراسته، لا من أجلِ اعتناقه، وإنّما من أجل حماية إخوانهم في الدّين منه. فقد كان الإسلام كما يقول "ساذرن Southern" يمثل مشكلة بعيدة المدى بالنسبة للعالم المسيحي في أوروبا على مستويات كافة.
وعلى اعتبار أن الاستشراق ممارسة عقلية غربية تكشف مظهراً من مظاهر العقل الغربي في إعادة صوغ (الآخر) وفق رؤية محددة بما يوافق منظور العقل الغربي، إلى أن خضعت الفلسفة الاستشراقية للمركزية الغربية، لتصبح بذلك المركزية الغربية أداة الاستشراق وغايته ومنتهاه! بناء على ما سبق، سيتم التطرق في هذه التدوينة إلى قضية المركزية الغربية المبنية على الاعتقاد بمحورية النّموذج الغربي وشموليته وعلى تهميش وازدراء ما سواه، ومدى عمق التّأثيرات التي تُجابه كيان المجتمع الإسلامي، والتي أدّت بدورها إلى معضلة أمنيّة فيه تهدد خصوصيته وتمس بمكونات هويته كاللغة، والثقافة، والدين، وغيرها.
وقبل الولوج في ثنايا الموضوع، كان لزاماً بداية إيضاح مفهوم المركزية الغربية في جانبيها اللّغوي والاصطلاحي. والمركزيّة هي مصدر الفعل ركز والمركز هو المقر الثابت الذي تتشعّب منه الفروع، والمركزية نظام يقضي بتبعية البلاد لمركز رئيسي واحد، ونقيضها "اللامركزية" وهو النّظام الذي يمنح للأقسام المختلفة نوعاً من الاستقلال المحلي. والمركزيّة تعني فرض لرؤى المركز واهتماماته وتوظيفها لخدمة مصالحه، والمركزيّة ليست فقط التّمركز على مجالات الثّقافة والقيم، إنما تشمل كل جوانب الحياة من اقتصاد وسياسة وعقائد وغيرها.

إذاً، يمكن تعريف المركزيّة الغربيّة بأنها "الممارسات التي تركّز على فرض الحضارة والمصالح الغربيّة عموماً في جميع مجالات الحياة على حساب باقي الثّقافات والحضارات والشّعوب، بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة"، والتّمركز الغربي يعتمد على نظامين هما: الغزو العسكري، والغزو المدني. والغزو العسكري المراد به استخدام القوة الحربية لفرض المركز لأجندته ورؤاه، أما الغزو المدني فهو توظيف التقنيات المدنية الاقتصادية والمالية والسياسية والثقافية والفكرية في التغيير الحضاري، الذي يريد المركز أن يحدثه، وهذه الأنظمة والآليات في مجملها كما يقول عنها محمود شاكر رحمه الله: "متعاونة متآزرة متظاهرة، وجميعها يد واحدة، لأنهم أخوان أعيان، أبوهم واحد، وأمهم واحدة، ودينهم واحد، وأهدافهم واحدة"، ولذلك نجد بينها من التنسيق والترابط ما قد لا يخطر على البال، لأنها تصدر عن إرادة واحدة.
لكن قبل كل ذلك، وقبل أن تُفرض المصالح الغربية على باقي الحضارات والشعوب وتحديداً الشعوب الإسلامية، كان عليهم المعرفة التامة بتلك الشعوب، وهي المعرفة التي جعلت حكمهم سهلاً ومجدياً، فالمعرفة تمنح القوة، ومزيداً من القوة يتطلب مزيداً من المعرفة، فهناك باستمرار حركة جدلية بين المعلومات والسيطرة المتنامية. وهم في مشروعهم يعتمدون على أمرين: المعرفة، والقوة. وكما قال إدوارد سعيد: "التبرير الاستشراقي للسّيادة الاستعمارية قد تم قبل حدوث السّيطرة الاستعمارية على الشرق، وليس بعد حدوثها، فقد كان التراث الاستشراقي بمثابة دليل للاستعمار في شعاب الشرق وأوديته من أجل فرض السيطرة على الشرق وإخضاع شعوبه وإذلالها". وهكذا اتجه الاستشراق المتعاون مع الاستعمار إلى إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين وتشكيك المسلمين في معتقداتهم وتراثهم، حتى يتم للاستعمار في النهاية إخضاع المسلمين إخضاعاً تامّاً للثقافة الغربية.
ومن ناحية أخرى، فإن الغربي الذي يولد في جوّ استعماري يتعلم النظر إلى الإنسانية بتعال وكبرياء، ويتعلم ازدواجية النظر إلى الأشياء، فهو يرى بصورة طبيعية مشاكل الغرب، أما حين ينظر إلى مشاكل الشعوب الأخرى فإنه يضع نظارة على عينيه ويرى الصورة بشكل مختلف. وهكذا هي المركزيّة الغربيّة تسبب الكبرياء والتّعالي والنرجسية، فالنموذج الغربي يتعامل مع العالم على أنه هامش أو أطراف وهو محور الحركة أو مركز العالم. وهنا ندرك علاقة المركزية بالأطراف، علاقة ذات نزعة استعلائية، ولا يرى غير ضرورة أن ينصاع (الآخر) إلى رؤيته وأطروحاته. وعمق الآثار التي نتجت عن المركزية الغربية وتَسَيُّد نموذج واحد، أدّى به إلى هيمنة مطلقة على المشهد العالمي بكل جوانبه السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والإعلامية.. إلخ، وخاصة الحقوقية التي تشرّع للناس ما تراه حقاً.

الإسلام في عيون غربية:
ثمة بعض الصور الكبرى رسمها العقل الجمعي الغربي عن الإسلام تتلخص في كونه دين: همجي، عنيف، متطرف.. إلخ، وبهذه الصورة تمت عملية بناء الخطاب الغربي تجاه الإسلام والمسلمين، وفي هذا الصدد يرى إدوارد سعيد أن عملية تشويه صورة الإسلام عبر التاريخ قد مرّت بثلاث مراحل هي: المرحلة الصليبية، المرحلة الاستشراقية، والمرحلة الإعلامية التي تم الاعتماد فيها من طرف الإعلاميين على الأفكار المسبقة التي أنضجتها المرحلة الصليبية والمرحلة الاستشراقية. وهذه الصورة النمطية المشوهة في ذهن الإنسان الغربي حوْل الإسلام استطاعت أن تجعله يخاف من هذا الدّين، ويقع فريسة لوهم افتراءات مقصودة، وأصبح من الطبيعي أن تتوجه أصابع الاتهام إلى الإسلام كلما حدث عمل إجرامي في أي مكان في العالم. ربما من هنا أمكن فهم المغزى من تضخيم الغرب لأطروحة الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا).
ولا شك أن سيكولوجية التخويف التي تندرج ضمن منظومة الغزو السياسي والفكري والقانوني التي يمارسها الغرب لها تداعيات إضافية على المجتمعات الإسلامية، إذ بات يشعر الفرد المسلم أن التهديد لا يطال شخصه إنما يهدد مُثُله (دينه وقيمه وثقافته ولغته وعائلته.. إلخ )، وهو ما عُرف في الدراسات الأمنية "المعضلة الأمنية المجتمعية" الذي يتعلق بإحساس مجموعة معينة بأن هناك مساس بمكونات هويتها كاللغة، والثقافة، والدين، والهوية، والعادات، فعندما تقوم مجموعة ما بزيادة أمنها المجتمعي (الجماعة الغربية مثلاً)، تتسبب في ردة فعل في الجماعة الثانية (الجماعة الإسلامية)، بحيث أن هذا الأخير ينقص من الأمن المجتمعي للجماعة الأولى، ويسبب في حدوث هذه المعضلة، ويعود إلى أن الأمن لدى جماعة معينة (الجماعة الغربية) يمكن أن يكون كبير بحيث ينتج عنه سلوك إبادي تجاه الجماعات الأخرى (الجماعات الإسلامية).
فعندما تحس مجموعة ما بلا أمن إزاء غيرها من المجموعات يؤدي إلى ما يعرف بـ "المأزق المجتمعي"، والذي يؤدي إلى غياب الأمن المجتمعي لدى الجماعة الثانية المرتبط بقدرة المجموعة على الاستمرار والحفاظ على خصوصيتها في ظل الظّروف المتغيرة والتهديدات القائمة. وهنا تجدر الإشارة إلى الدّور المتعاظم للحكومات في العالم الإسلامي في تكريس التهديدات الأمنية لكيان المجتمع الإسلامي، والتي تعهدت بمتابعة التّغريب وغرس تفوق القيم الغربية، فذلك لا يعدو أن يكون استعماراً بوجه محلي، وقد سماه رئيس وزراء "غانا كوامي نكرومي" بــ "الاستعمار الجديد"، وعرّفه بأنه: وضع دولة مستقلة نظرياً تتمتع بكل علامات السيادة، لكن سياستها في الواقع تسير من الخارج"، وهذا هو الغزو السياسي وهو أخطر أنواع الغزو، ذلك لأن السياسة الغربية اليوم تدرس كيف تكسب بالسلم أكثر مما تكسب في الحروب.