شعار قسم مدونات

فشل التعليم المغربي من وجهة نظر الفقهاء المسيسين

blogs التعليم

إن موضوع "فشل التعليم المغربي" أصبح موضوعا سهلا للنقاش، نجد كلّ من هبّ ودب يتّجه إلى هذا الموضوع، ويُدلي برأيه فيه، والكل أصبح يفهم في مكامن الخلل والضعف بهذه المنظومة المتلاشية، والتي كما دونت سابقا في أحدى تدويناتي، انها على شفا جرف هار، وردا مني على أحد شيوخنا الأبرار الذي تحدث هو الأخر عن التعليم في مقالا له، يقول نه سيتحدث عن المسكوت عنه في أسباب فشل إصلاح منظومة التعليم المغربي، ومن الوهلة الأولى إذا ما نظرت إلى صورة صاحب المقال، سَيَتبادرُ إلى ذهنك لأول وهلة أن من بين الملتحين من ينظر إلى الأمور من زاوية مخالفة للزاوية المعهودة لديهم.

تَبْدَأُ قراءة المقال وهو يعرض، رغم المجهودات المبذولة، أوجه إخفاق المنظومة التربوية المغربية فَتقْطعُ الشك باليقين بأن الرجل يُعمِل العقل قبل النقل في تحليله للأمور. لكن، وبطريقة عجيبة، ربط الأمر بالاستعمار ومن الاستعمار انتقل إلى الدين ثم العربية، ليستنتج في النهاية أن البعد عن الدين والعربية هما سبب الفشل، واعتبر أن الأمر مؤامرة من أطراف خارجية يُروّج لها علمانيو هذا الوطن.

تعُودُ إلى ذهنك قصة ذلك التلميذ الذي لا يجيد كتابة نص إنشائي إلا إذا كان موضوعه وصف بستان، ولما طلب منه أن يصف طائرة لم يكتب عن الطائرة إلا جملة "ركبنا الطائرة في المطار وحلقت بنا قليلا ثم سقطت في بستان…" فشَرَع يَصف البستان. تَسْتَنْتِجُ أن من لا يسمح لفكره بالتحليق بعيدا لا سبيل إلى إقناعه بجمال ما لم يختبره، أما العربية والدين الذيْن يروج لهما فقد ثَبُت لنا بالتجريب لقرون فشلهما، وإن ضرهما أكبر من نفعهما.

يستحيل إصلاح منظومتنا التربوية بدون تغيير جذري للمناهج والمقررات وإعادة الاعتبار للغة الفرنسية لتسترجع مكانتها الطبيعية لإيقاف مسلسل التعريب المبني على أسس أيديولوجية وسياسية ترمي لمحو البعد الأمازيغي والإفريقي للمغرب
يستحيل إصلاح منظومتنا التربوية بدون تغيير جذري للمناهج والمقررات وإعادة الاعتبار للغة الفرنسية لتسترجع مكانتها الطبيعية لإيقاف مسلسل التعريب المبني على أسس أيديولوجية وسياسية ترمي لمحو البعد الأمازيغي والإفريقي للمغرب

مشاكل تعليمنا بل مشاكل مجتمعنا متعددة الأسباب منها تاريخي وسياسي وثقافي ومن بينها ما أصبح ظاهرة شائعة وحاضرة بقوة هي سطوة فقهاءنا المسيسين على عقول المواطنين ولم ينجو تعليمنا من هذا الأمر وأخضعوا الخطاب الديني إلى ميولاتهم السياسية المصلحية بل صنعوا من مواقفهم السياسية حقائق دينية.

لقد استفاد الخطاب الديني السياسي من طرق التواصل الحالية (قنوات، التواصل الرقمي) من بسط نفوذه وهيمنته على العامة، فأصبح شيوع تدين الناس بدين الفقهاء المسيسين أمرا واقعا وحاضرا بقوة في الحياة اليومية للعامة من مساجد كثيرة ومملوءة عن آخرها بل تفيض بالمؤمنين وغيرت المكتبات كتبها العلمية بكتب دينية صفراء وانتشر اللباس الديني أكثر بكثير من ما مضى، وكثر الخطاب الديني في أي مكان وتضخمت طبقة الفقهاء المسيسين حتى أصبح هناك فقيه لكل عشرة مواطنين لكن بقدر ما انتشر هذا التدين ذو العمق السياسي والمصلحي بقدر ما انتشر النفاق والغش والتحايل باسم الدين وانتشر العنف الديني والحقد والكراهية ليس ضد اليهود والنصارى فقط بل بين أفراد المجتمع الواحد.

لو كان مشكل التعليم أخلاقيا بسبب الابتعاد عن الدين، لما ظهر الفساد في عصر كان فيه تدريس المعارف الإسلامية بالعربية سائدا، ورحم الله الشاعر الأندلسي الذي قال في فقهاء عصره:

أهل الرياء لبستم ناموسكم … كالذئب يذبح في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك … وقسمتم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب البغال بأشهب … وبأصبغ صبغت لكم في العالم

ولو كان التعليم العصري بالفرنسية هو سبب ضياع الأخلاق لما أنتج رجالا يفتخر بهم المغرب أمثال الحسن الثاني الذي وضع أسس الدولة المغربية وكان يخرس الفرنسيين بسعة معارفه في لسانهم، وما أنتج المهدي بن بركة الذي خاض في السياسة الدولية وكان يحظى بثقة واحترام كل زعماء العالم الثالث، ولما أنتج العقول التي تولت تدبير شؤون المغرب بإخلاص وسداد رأي بعد الاستقلال بما يساير العصر.

مسألة القيم الأخلاقية غير مطروحة في التعليم مادام أن دولا ملحدة ووثنية متقدمة علميا وثقافيا وصناعيا واقتصاديا مثل اليابان وكوريا والصين والهند

مقاربة اختزالية عقيمة تلك التي اعتمدها شيخنا البار لتشخيص حالة المنظومة التربوية المغربية، مقاربة تنهل من حقل الوعظ ومن أدبيات الفقهاء أكثر منها من نتائج علوم التربية، فعندما نقرأ عن السياسات التي اعتمدها المستعمر لمسخ منظومتنا التعليمية وكذا منظوماتنا القيمية والأخلاقية نعتقد بأن وضع نظامنا التربوي كان ثوريا لا يقارعه نظام آخر قبل دخول المستعمر، وكأن بلداننا كانت تشع علما ونورا وقيما وأخلاقا، والحقيقة أن بلادنا كانت تعيش في ظلام دامس، ظلام الجهل والتخلف على كل الأصعدة فرغم احتفاء اجدادنا باللغة العربية واهتمامهم البالغ بتدريس الدين وعلومه، لم يؤدي ذلك الى تنشئة مجتمع متعلم ومتخلق كما لم يؤدي إلى بناء دولة حديثة وقوية وإنما أنتج لنا دولة قبائل لا غير، والسبب هو أنهم اهتموا بكل ما يتعلق بالدين وعلومه ولغته واحتقروا ما دون ذلك من العلوم الحديثة واللغات الحية واقفلوا عقولهم عن المعارف الكونية.

مسألة القيم الأخلاقية غير مطروحة في التعليم مادام أن دولا ملحدة ووثنية متقدمة علميا وثقافيا وصناعيا واقتصاديا مثل اليابان وكوريا والصين والهند، فليس الدين هو المشكل في عرقلة أو تشجيع التعليم بل في السياسة العامة للدولة تجاه شعب معين قصد توجيهه وتربية أبنائه وتعليمهم آخر ما وصلت إليه الإنسانية من علوم وتكنولوجيا.

إن المنظومة التربوية ما هي إلا قبضة اليد على معول إستراتيجية مسلسل التغيير الاجتماعي، شدتها وصلابتها رهينة بمدى سلامة وقوة الجسد المجتمعي كله، وبالتالي لا يمكن تفكيك بنية المنظومة التربوية واعادة تركيبها تركيبا سليما إلا بتجنيد كل الطاقات والأليات التي تدور حولها جميع مفاصل المجتمع.

إن فضيلة الشيخ يدعو إلى إصلاح قطاع التربية والتكوين بتوظيف أسلوب الوعظ والإرشاد وخطب الجمعة السطحية انطلاقا من نصوص مجتثة من سياقاتها التاريخية التي لا تزيد التحليل إلا سطحية وضحالة.

ويستحيل إصلاح منظومتنا التربوية بدون تغيير جذري للمناهج والمقررات وإعادة الاعتبار إلى اللغة الفرنسية لتسترجع مكانتها الطبيعية لإيقاف مسلسل التعريب المبني على أسس أيديولوجية وسياسية ترمي إلى محو البعد الأمازيغي والإفريقي للدولة المغربية.

كما أشير إلى حقيقة تتجنبها الأغلبية الساحقة من السياسيين والمثقفين ولا تنادي بها إلا القلة الشجاعة التي تضحي بكل ذخيرتها الرمزية من أجل تنوير دروب المجتمع المظلمة التي تعشعش فيها الأفكار الهدامة والانتحارية، وتتجلى هذه الحقيقة في المطالبة بعلمنة المدرسة العمومية وتحريرها من قبضة المشروعية الدينية التقليدية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.