كالمهرّج في بلاطه، إذا راق له كلامك نلت إعجابه وكنت لديه من المحظيين. وإذا لم يرق له كلامك فأنت من المنبوذين. يوماً ينصّبك بطلاً، ويكاد يعطيك وسام الشرف. ويوماً يخوّنك كما يشاء، ويكاد يرتدي عمامة ليكفّرك أيضاً كما يشاء. وإن كنت لاذعاً بما فيه الكفاية، إما سيحلّل إراقة دمائك، وإما ينصّب كلامك منزلاً، بحسب مزاجه ومرونته تجاه سخريتك.
ومن يمنعه؟ ألسنا في زمن الديمقراطية؟ زمن حرّية الرأي والرأي الآخر؟ زمن كلمة الشعب؟ والشعب يقول كلمته. ويوزّع صكوك الوطنية كما يحلو له، وصكوك الإنسانية أيضاً. إذا عبّرت عن تعاطفك مع ضحية، حاسبك على عدم تعاطفك مع ضحايا آخرين. قد تكون قد عبّرت عن تعاطفك سابقاً معهم، لكنّه يمنح نفسه الحقّ بتجاهل ما يريد ومحاسبتك كما يحلو له أن يراك.
إذا عبّرت عن مساندتك لقضيّة لا تشغله، جرّدك من وطنيتك واتّهمك بأنّك قلم مأجور وطالب بتكميم صوتك. يقرّر متى يشاء متى يكون قبلياً، عنصرياً، طائفياً، ومتى يكون إنساناً يهتمّ بأخيه الإنسان أينما كان.
كالدكتاتور، لا يحتاج لأن يكون عادلاً ولا منصفاً ولا محقّاً. يكفيه أن يريد. وباتت له كافة الأدوات ليحكم كما يريد هو. زمن اللايكات. زمن حكم الشعب. زمنٌ حلمنا به وانتظرناه بفارغ الصبر. زمن الديمقراطية الحقّة. فصفعنا الزمن بديمقراطياتٍ على الطريقة البوتينية (من فلاديمير بوتين). لم ندرك أنّ الشعوب المقموعة لا تعرف مسؤولية الديمقراطية. وأنّها حين تُمنح الحقّ في الحكم، فإنّها غالباً ستقلّد الأمثلة التي تعرفها.
كالدكتاتور، تكفيه كلمة ٌهـُـمست له ضدّك كي يحاربك بكلّ ما أوتي من جبروت. كالدكتاتور، مصابٌ بداء البارانويا، يتوقّع منك الخيانة في كلّ لحظة فلا يعطيك سوى الأمان الزائف. كالدكتاتور، يشجّع التفاهة ويقمع الحكمة. ملايينٌ يصفّقون لكيم كارداشيان ومقلّداتها، ثمّ عندما تنتهي الرقصة يلتفتون إلى أوّل صوت عقل يجدوه، وينخرطون في محاولة تشويهه.
كالدكتاتور، يحاول القمع كما يريد، أن يقولب كلامك كما يريد، أن يسكتك حين يشاء، ويرفع صوتك حين يريد. لكن حتّى في الديمقراطيات البوتينية، الإمساك بجهاز التحكّم لا يعني التحكّم بالصوت، بل بالسمع. كلّ ما تتحكّم به هو أذنك. هل تريد أن تسمع أم لا؟ هل تريد أن تعرف أم لا؟
كالدكتاتور، يفضّل أن يتكلّم دون أن يسمع. يصمّ أذنيه عن كلّ ما لا يروق له. وأكثر ما لا يروق له هو تحمّل المسؤولية. فالمسؤولية تعني أن يسمع، أن يعرف، أن يعدل وأن ينصف. المسؤولية واجباته هو، قبل أن تكون حقوقك أنت. وكالدكتاتور، يذكّرك بواجباتك أنت دون حقوقك، وبحقوقه عليك دون واجباته.
هناك فئة حلمت بالحرية في كلّ لحظة من وجودها. حلمت بها لدرجة أنّها فهمت عيوبها وفهمت حدودها وفهمت مسؤوليتها. وهناك لم تكن تعنيه كلّ هذه الشعارات الطنّانة |
دكتاتورية الشعوب هي فخر الأنظمة القمعية. يستريحون على أريكتهم وينظرون لنتائج أعوامٍ من التدجين والترويض تفرّخ أشباهاً لهم، يمارسون ما يمارسونه من قمع دون حتّى أجرٍ أو تفويض أو لقاء. لا حاجة لشكرهم حتّى لولائهم المطلق للفكر الشمولي. وإن ضلّت بوصلة الشعب لا قدّر الله واتّجهت نحو ظلم الدكتاتور، يكفيه أن يهمس باسم فريسةٍ جديدة يوجّه أنظارهم نحوها، بعيداً عنه.
كيف نستغرب؟ كيف كنّا نتوقّع أن يكون شكل الحرّية مختلفاً عند من لا يعرفها؟ عند من لم يحلم بها؟.. هذا هو كلّ الفرق بين من يستغلّ الحرّية لقمع الآخر، وبين من يحارب من أجل حرّيته وحرّية الآخر، حتى لو كانت الحرية لقمعه هو.
هناك فئة حلمت بالحرية في كلّ لحظة من وجودها. حلمت بها لدرجة أنّها فهمت عيوبها وفهمت حدودها وفهمت مسؤوليتها. وهناك لم تكن تعنيه كلّ هذه الشعارات الطنّانة. كان يجلس على أريكته يشاهد الآخرين يُسحلون أمامه لمقارّ الاحتجاز، يشاهد أهلهم ينتظرون عودتهم ولا يعودون، يشاهد البوط العسكري يدعس رقاب آخرين، وضابطاً يبصق في وجه والدة تجرّأت على طلب الرحمة لابنها.
كان هناك، كما كنت أنت. هو لم تهتزّ شعرة في جسمه أمام كلّ ما رآه، وأنت حتّى لو كتمت صوتك، سمعت عقلك يستنكر ويغضب ويحلم بالحرّية يوماً لترفع صوتك وتقول لا. فعندما جاء زمن حرّية الصوت، وجدت صوته أعلى من صوتك.
هل تمسك جهاز التحكّم وتصمّ أذنيك كما يفعل هو؟ هل اكتسبنا الحرّية لنمارس بها حوار الطرشان؟ هل ترفع صوتك أكثر؟ وهل يعلو صوتك على صوت الشعب الدكتاتور؟ هل الحرّية هي شريعة الغاب؟ هل هذا ما حلمت به؟ معركة الصراخ الأقوى؟ أم أنّ الدكتاتوريات تشوّه كلّ ما هو جميل لتبقى؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.