شعار قسم مدونات

التجربة.. محطة نضج

Blogs- city

وصلتُ مؤخرًا إلى أن التجاربَ التي يمر بها الإنسان هي من حُسنِ حظّه في حياتِه، ومن أقداره العظيمة التي تحدثُ له أن يمرّ بمطباتٍ تستخرجُ منه أعظم ما فيهِ إلى هذا العالم، وتمرّنه على كافة منحنياته ارتفاعًا وانخفاضًا فتصنعه ثابتًا أمام أيّ معطى وتحت أيّ ظرف، حتى تنضجه وتشكّل منه مجموعة أعمارٍ ملخّصة في عمر واحد.

         

وعلمتُ أيضًا أن العمرَ ليسَ مقياسًا للنضج أبدًا، إنما التجربة هي المقياس، إنها -التجربة- هي الحالة التي تحدثُ للإنسان فيتصرف أمامها للوهلة الأولى بعفوية أو بسذاجة أو بطريقة غير حكيمة ربما!، لكن ليس هذا هو المهم، المهم هو أثر هذه التجربة وما ستتركه في الإنسان من مراحل نضج وشيب ووقار، فالتجربة هي الحالة التي يتحوّل بعدها الإنسان إلى إنسان شبه مختلف أو مختلف تمامًا عما كان عليه- فتتغير طريقة إبصاره للأمور وحكمه عليها، ويتحول إلى إنسان أنضج رؤية، وأوسع أفقًا وأكثر وقارًا، وصاحب كيان صلبٍ وقوة.

        

في اتجاه آخر، هناك فرقٌ مفصليّ في طرق النهوض من التجارب المختلفة، هناكَ من ينهضون من عمق نضجهم، وهناك من ينهضون من عمق انكسارهم، أما الثلة الأولى فأولئك الذين يَرَونَ في الثقوب التي حدثت لهم مُنبثَقًا للنور كي يدخل إلى حياتهم، فيسرّون الرضا في أنفسهم، وينشرون من حولهم ومضات الحياة وشُعَل الاستمرار، يسمحون للنور أن يمر عبر الثقوب فينير صدورهم ويشرحها، ويطوون صفحات ما مروا به دون أن يمسحوها، إنّما يحفظون الدرس الذي بثته إليهم ويجيدون فهمه، ويكبرون وينضجون وتتورّم أدمغتهم – هذا النضج الذي يدفع في مقابله غيرهم أعوامًا وأعوامًا لقاءه، في مقابل أنهم بقوّتهم نضجوا في غضون تجربة .

                    

الفكرة في أنّ الحياة ليست عبارة عن صراط مستقيم، إنها مسلك ممتلئ بالتعرّجات والمنعطفات التي وُضعت على المفترقات لتنهض بأُناسٍ وتطفئَ آخرين، تصقل أناسًا وتكسر آخرين
الفكرة في أنّ الحياة ليست عبارة عن صراط مستقيم، إنها مسلك ممتلئ بالتعرّجات والمنعطفات التي وُضعت على المفترقات لتنهض بأُناسٍ وتطفئَ آخرين، تصقل أناسًا وتكسر آخرين
      
أما الثلة الأخرى التي فهي لا تنهض! هؤلاء ينطفئون فجأة وينهدم بناؤهم الذي صرفوا أعوامهم يؤسسون ويبنون فيه، هؤلاء يفتقرون إلى القوة التي كانت من الممكن أن تصعد بهم مع التجربة، فسقطوا على المفترقات وخسروا النضج والتجربة وأعمارهم وانطفئوا وأغلقوا الثقوب التي حدثت فلم يسمحوا للنور بأن يعبر إلى قلوبهم فينفضها ويعبؤها بالعمر الجديد الذي كان من المفترض أن تحمله لهم التجربة، فخسروا أيّما خسارة! 

        

الفكرة في أنّ الحياة ليست عبارة عن صراط مستقيم، إنها مسلك ممتلئ بالتعرّجات والمنعطفات التي وُضعت على المفترقات لتنهض بأُناسٍ وتطفئَ آخرين، تصقل أناسًا وتكسر آخرين، الآخرين الضعفاء، ذلك لأن الله لم يجعل الناس أمّة واحدة، وأودع في هذه الأرض محطات تُفَاضلُ بعضهم على بعض، وتميّز بعضهم عن معظمهم، فكان القوي وكان الضعيف، وكان الناضج وكان غيره، وكان الناس منازل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.