شعار قسم مدونات

كم من الجرائم ترتكب باسم السمع والطاعة؟

Blogs-azhar

لقد خلد التاريخ عبارة مدام "رولان" من على خشبات المقصلة حين صاحت " أيتها الحرية، كم من الجرائم يرتكب باسمك". يبدو "سيدة رولان" أن الحرية ليست إلا مثالاً للشعارات والعناوين التي يتاجر بها الظلمة والمستبدون، في كل زمان ومكان، ربما كان رونق هذا الشعار في زمن العقد الاجتماعي والحقوق الطبيعية، في زمن ثورة الانعتاق من العبودية الكنسية الإقطاعية يحث الطغاة الذين قفزوا على ظهر هذه الثورة من أمثال "روبسبير" الذي ارتكب أشنع المجازر في رفاق الدرب أن يوظفوا هذا المصطلح في تحقيق أهدافهم الخاصة وإن كان سوق الآلاف من الخصوم إلى المقصلة باسم الحرية، وطبعاً يا للمفارقة!

   

وربما لم يعرف واقعنا اليوم مصطلحاً عابراً للتاريخ والجغرافيا وأصول العقائد وشرائع الفقه، وفروع الأحكام السياسية الإسلامية مثل مصطلح السمع والطاعة، الذي أصبح يعني في أحدث تجلياته: وجوب الرضى والخضوع، والقبول والخنوع والإتباع والالتزام بإرادة ولي الأمر حقاً وباطلاً، جمعاً للكلمة ودفعاً للفتنة. هذا المصطلح الذي أصبح عابراً في مدلوله للأًصول الشرعية القطعية العقدية منها والفقهية، والعابر في مدلوله للعصور والقرون التاريخية، والحاكم على فروع الشريعة وجزئياتها وظنياتها.

       

هذا المصطلح الذي أضحى يوظف في نقيض ما أراد الله ورسوله لخدمة الطغيان والاستبداد، والتجبر والاستكبار في الأرض بغير الحق باسم الله وباسم رسوله، وصحابته وسلف الأمة كذباً وافتراءً.  لقد قرأنا وحفظنا ورددنا في مدارس السلطان ومساجد السلطان، وجامعات السلطان كل أحاديث السمع والطاعة، التي تأمرنا بالصبر على ظلم السلطان حتى نلقى النبي صلى الله عليه وسلم على الحوض، أن نصبر على ظلمه وإن ضرب ظهورنا وأخذ أموالنا، وأن نلجأ إلى الله وحده في طلب رفع الظلم عنا، فعلى السلطان ما حمل وعلى الناس ما حملوا، وإن تطيعوا السلطان تهتدوا، والله وحده هو من يملك سؤال السلطان عما يفعل، أما أنتم فما عليكم إن اشتد عليكم ظلم السلطان إلا أن تعضوا على جذع شجرة حتى تلقوا الله على ذلك. حرصاً وحفظاً على نعمة الأمن والأمان، والسلم والسلام، ودرءاً للفتنة، وبعداً عن التهمة. 

              

لم يخبرونا أن السمع والطاعة لا بد أن يفهم في ضوء مجموع النصوص التي حين تأمر الفرد بالسمع والطاعة فإنها تأمر الجماعة بالانتصار من الظالم والضرب على يده
لم يخبرونا أن السمع والطاعة لا بد أن يفهم في ضوء مجموع النصوص التي حين تأمر الفرد بالسمع والطاعة فإنها تأمر الجماعة بالانتصار من الظالم والضرب على يده

        

ولم يخبرنا وقتها معلمونا ولا أساتذتنا ولا إعلام الحاكم عن المقصود بالسمع والطاعة، بل ترك اللفظ مجملا، لكي يوظفه كل حاكم في كل ما أراد من رعيته تحت هذا المصطلح: السمع والطاعة.  لم يخبرونا أن السمع والطاعة لابد أن يفهم في ضوء الأصول العقدية القطعية، التي نصت وقررت بالجزم واليقين المطلق أن المَلِك هو الله، وأن الله وحده هو المَلِك، وأن المُلك لله، وأن الله وحده له الملك، لا يشترك معه أحد من خلقه في شيء من ذلك، ولم يشرك سبحانه أحداً من خلقه في شيء من ذلك، وأن رسالة الإسلام ما جاءت إلا لتحرر العباد من الخضوع للملوك والجبابرة والفراعنة والقياصرة والأكاسرة، ممن يزعمون الملك وهم لا يملكون في حقيقة أمرهم خلقاً ولا رزقا ولا نفعاً ولا ضراً ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فتعالى الله الملك الحق وحده لا شريك له، بل نسبوا للملوك زورا وبهتانا ألفاظ العظمة والفخامة والسمو مضاهاة لله تعالى، وارتقوا بهم فوق سبل البشر إلى منزلة " من لا يسأل عما يفعل" تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً، والعجب كل العجب أن الله الملك الحق رضي من العبد أن يؤمن به ويعبده ويخضع له ويذل له طوعاً برضى واختيار، ولم يرض لعباده أن يؤمنوا به ويذعنوا له ويعبدوه إجباراً وقهرا بغير رضى واختيار، ثم يزعم مشايخ السلطان وعمائم النفاق وكهنة السوء وسدنة الباطل أن الله أمر الناس أن يسمعوا ويطيعوا ويذلوا ويخضعوا قهراً وقسراً وجبراً للظلمة والفجرة والفسقة والغشمة من الحكام الذين لا يملكون من أمر دنياهم شيئاً فكيف بأمر دنيا الناس. فيا للرجال لهذا العجب!

            

لم يخبرونا أن السمع والطاعة لا بد أن يفهم في ضوء الأصول الكلية العملية، التي نصت بصريح المقال، وبالقطع واليقين الذي لا يدع مجالا للشك أن الولاية شورى بين الناس، ولا تكون إلا شورى، ولا ولاية لمن تولى بغير الشورى، ولا سمع ولا طاعة له، بل هو أشر من السراق وقطاع الطرق، وإنه ليعجب المرء كيف يستدل كهنة الباطل على صحة ولاية المتغلب بنقول أقدمها عن ابن عمر رضي الله عنه، ولا يجدون آية ولا حديثا ولا أثرا عن الراشدين من الخلفاء الذين أمرنا باتباع سنتهم يستدلون به على مرادهم إلا ظنيات لا تغني من الحق شيئاً، وهذا ليس لشيء إلا لأن هذا الأمر المنكر أجازه فقهاء من سبق في زمنهم للضرورة والحتمية والإكراه التاريخي، وليس هذا مكان بيان ذلك، ولكني أسألهم أن يأتوا بنص واحد أو أثر واحد من كتاب أو سنة أو سيرة أحد من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بأن نعض على سنتهم بالنواجذ يصرح بصحة ولاية المتغلب؟ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فترقبوا وعيد الله ووعيد رسوله بأن تحشروا مع المستكبرين والمستبدين يوم يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً، وأزيدكم أثرا صحيحاً عن عمر بن الخطاب " من تولى بغير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه".

هذه الأمة هي أمة الجماعة التي انعتقت من العبودية البشرية، لتعيش حرية العبودية لله برضاها واختيارها، وما أعظمها من كلمات خالدة " إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"

لم يخبرونا أن السمع والطاعة لا بد أن يفهم في ضوء السياق التاريخي، والظرف الزماني الذي سيقت فيه هذه النصوص، وأن الحث الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، لم يكن لإخضاع الناس وإذلالهم وتعبيدهم للظلمة والفجرة من الحكام، ولكن لتهذيب نزعة البداوة الجاهلية والانتقال من حياة الصعلكة والفوضى في الصحارى والقفار، إلى حياة المجتمع والأمة والنظام في دولة الإسلام، من الانتصار للنفس بحمل السيف والعصبية للنفس والقبيلة، وأخذ الحق والباطل قوة وعنوة، إلى الانتصار للحق والفضيلة والجماعة، والمطالبة بالحق بالاحتكام إلى القضاء. 

لم يخبرونا أن السمع والطاعة لا بد أن يفهم في ضوء مجموع النصوص التي حين تأمر الفرد بالسمع والطاعة فإنها تأمر الجماعة بالانتصار من الظالم والضرب على يده، وحين تأمر الفرد بالصبر فإنها تأمر الجماعة بأطر الظالم على الحق أطراً، وقصره عن غيه قصراً، وحين تأمر الفرد بالامتناع عن مقاتلة الظالم طلباً لحقه فإنها تأمر الجماعة بمقاتلة الباغي المعتدي أيا كان حاكما أو محكوماً دفاعاً عن الحق، وحين تأمر الفرد باحتساب حقه عند الله فإنها تأمر الجماعة بإيصال الحق له غير متعتع.

إن السمع والطاعة لا يفهم إلا في ضوء دولة الجماعة، التي تولي من تراه أهلا للولاية برضاها، تراقبه وتحاسبه وتعزله إن أخل بما اشترطت عليه الجماعة، والواجب على الفرد في هذه الدولة السمع والطاعة لمن ولته الجماعة، والمطالبة بحقه كما نظمته الجماعة، والتبرؤ من حياة العصبية والجاهلية والفوضى وقطع الطريق والغارات والثارات المقيتة، هذا هو المراد الحق بالسمع والطاعة، وهذه الأمة هي أمة الجماعة التي انعتقت من العبودية البشرية، لتعيش حرية العبودية لله برضاها واختيارها، وما أعظمها من كلمات خالدة " إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.