شعار قسم مدونات

على تلك الخشبة.. ما يستحق الحياة

Blogs-Stage

" كَم مِن مرّةٍ ارتجفت فيها يداي قَبل أن تتحرّك أمامكم بهذه الثِقة، كَم من مرّةٍ عجزت فيها أقدامي عن حملي كُلما اعتليت على مسرح قَبل أن أقف أمامكم كالجبل ثابِتاً، كَم من مرّة تلعثم فيها لساني وخانتني الكلمات قبل أن أنطقها مُترنّماً ومُستمتِعا"،  كانت هذه الكلمات البسيطة الصادقة خاتمةً لحديثي في أول مُسابقةٍ أشارك فيها للحديث أمام العامّة باسم " مؤتمر قُدوة الأول " وترجّلتُ بعدها عن درجاتِ المسرح الثلاث دون أدنى اعتقادٍ مِنّي بأنّي سأعتليها بعد أقلّ من نِصف ساعةٍ حاصِلاً على المركز " الأول" ومُتفوقاً بذلك على أكثر من ستّينَ شخصاً تقدموا لذلك الرقم الصعب أيضاً. 

           

عوداً بذاكرتي إلى المرّة الأولى التي تحدّثتُ فيها أمام العامّة، العاشرة من عُمري، الساعة السابعة صباحاً على الإذاعة المدرسيّة، يومٌ شتويّ بالرغم من بُرودته إلا أني كنتُ أشتَعِلُ في داخلي من الخوف، عددٌ لا بأس به من طَلبة مدرستي يرمقونني بنظراتٍ ناعسة تودُّ لو أختصر حديثي ليدخلوا إلى صفوفهم ويُكملوا سُباتهم فيها.  أذكر حينها كيف تراقصت الحروف أمامي على تلك الورقة البيضاء حتى بدت غير مرئيّة، وأذكر أيضاً كيف اختنقت كلماتي واحدة تلو الأخرى في حلقي فألفظها من دون صوت، وكيف انتفض جسدي مرّات مُتتالية مِن الخوف مع كمية لا نهائيّة مِن العرق النّاتج عن توترٍ رهيب، ورُبّما شاركتُ من كانوا يضحكون يومها بعض الضحك على نفسي. 

       

وحين أقارن هذه المشاهد -على بساطة تجربتي الأولى وتعقيد الثانية- أرى نقلةً نوعيّة لم تَكُنْ وليدة الصدفة، ولم تَكُنْ فقط نتاج التدريب – على الرغم من أنّه حازَ على الفضل الأكبر فيها –  بَل كانت نوعاً من رَدِّ الفِعل المُتجسّد في هيئة تَحدٍّ عظيم، فالتحوّل مِن ذلك الشخص الذي يوشك على البُكاء عندما يتحدّث أمام جمعٍ من النّاس، إلى شخصٍ يُزاحم الصفوف الأولى المُتقدِمة إلى المسارح كان تحدّياً فريداً من نوعه، وسعيدٌ كُلّ السعادة أنّي جاهدتُ ذاتي لتحقيقه، وها أنا ذا أخُطّ بقلمي وصفاً مُختصراً لعلّه يكون سبباً لتحدياتٍ من ذات النوع أو من أنواع أخرى أيضاً، فكُلّ عُقدة متى ما تحوّلت إلى تحدٍ للذات بدأت بالانفراج شيئاً فشيئاً.

                

الخوف في مِثل هذا المقام أمرٌ طبيعيّ وقد يكون حافِزاً للشخص كي يزيدَ من حرصه على تحسين أداءه، أمّا إذا فاضَ عن حدِّه المعقول تحوّلَ إلى مِعولٍ يهدمُ الثِقة بالذات ويُسبّب الإحباط
الخوف في مِثل هذا المقام أمرٌ طبيعيّ وقد يكون حافِزاً للشخص كي يزيدَ من حرصه على تحسين أداءه، أمّا إذا فاضَ عن حدِّه المعقول تحوّلَ إلى مِعولٍ يهدمُ الثِقة بالذات ويُسبّب الإحباط
          
على تلك الخشبة ما يستحقُ الحياة، بمجرّد صعودك مرّة واحدة هُناك في الأعلى، تحت الضوء الأبيض المُسلّط عليك وحدك، وتحت مجهر الأعين أيضاً فأنت رَهنُ أحد احتمالين لا ثالث لهما، إما ستُدمن ذلك المسرح والتصفيق ونظراتِ الإبهار والإعجاب المحيطة بك، وإما سيصبح عقدتك الأزليّة الأبديّة التي لا فِرار منها – ما لَم تُعالجها بذكاء- وحسب بعض الدِراسات التي رتّبت أنواع الفوبيا أو الخوف عند البشر بشكلٍ عام، فقد حلّ الخوف من الحديث أمام العامة في المرتبة الأولى مُنفرداً بلا مُنازع، وفي مُفارقةٍ غريبة فقد حَلَّ الخوف من الموت بحدِّ ذاته في المرتبة السابعة، مما يعني أنَّ بعض الأشخاصِ يخافون من الحديث أمام الآخرين أكثر من خوفهم من الموت.

       

وهذا من المؤسف جداً والغريب جداً في آن واحد، فالمؤسف أن تجد شاباً أو فتاةً في العقد الثاني من عُمرهم يعجزون عن الحديث أمام الآخرين لمدّة تتجاوز الدقائق الثلاثة دون خوفٍ أو قلقٍ أو تلعثُم.  والغريب في أنّ الأشخاص الذين يخافون الحديث أمام العامة يُجيدون التكلّم في الحوارات الفرديّة جيداً، فقد يتحدث الواحد منهم مع مئة شخص كُلٌّ منهم على انفراد ويكون مُقنِعاً منطقياً سلساً في حِواره، أمّا إذا خطب فيهم دفعة واحدة عاد إلى سيرته الأولى مُتخبطاً ومُتوتراً. ونعزوا ذلك إلى العديد من الأسباب مثل:

1- الخوف والقلق المُبالغ فيه: والخوف في مِثل هذا المقام أمرٌ طبيعيّ وقد يكون حافِزاً للشخص كي يزيدَ من حرصه على تحسين أداءه، أمّا إذا فاضَ عن حدِّه المعقول تحوّلَ إلى مِعولٍ يهدمُ الثِقة بالذات ويُسبّب الإحباط.

2- انعدام التجربة مُبكِراً: فلا تُتاح الفرصة الكاملة لعددٍ كبير من الطلبة في المدرسة للتدرّب على الحديث أمام العامّة مِمّا يجعلُ الأمر صَعباً عليهم مُستقبلاً. 

3- ضعف الدعم في المنزل: إذ إنَّ ضعف الدعم المنزليّ، بل وانعدامه أحياناً يُعدّ الجذور الأولى لهذه المشكلة، فعندما لا يَجدُ المتحدّث من يستمع أو يأبه لرأيه في المنزل سيلتزمُ الصمت مُرغماً حينها، ويستمرُّ في كبت حروفه إلى أن يصبح الصمت المُرافَق بالخجل عادته المُلازمة، والقاتِلة في آن واحد.

4- المجتمع المحيط والمُحبِط: الذي يحرص أفراده على تصيُّد الأخطاء وتضخميها وتسليط الضوء عليها، كما لا بُدَّ من السخرية والاستهزاء من مرتكبيها.

             

قد تسقط وتشعر بالإخفاق، وينتابك الشعور بالفشل الذريع، لكن لَن تقتلك كُلّ هذه الأمور، ما سيقتلك حقاً إذعانك المُستمرّ وإفساح المجال للسيطرة عليك، عندها ستقتلك دون إبداء أي رحمة، وتقتل معها الشغف والتميّز والطموح فيك

وسيمرُّ جميع من امتلكوا شجاعة التجربة حتماً بموقفٍ مُشابه، فالأخطاء أمرٌ طبيعيّ وحدوثه وارِد، وهنا يتوجّب على الفرد التحلّي بمنسوب مرتفع من الثقة بالنّفس والقدرة على تجاوز مِثل هذه المواقف دون أدنى تأثير في تصميمه وعزيمته. ومع تعدُّد الأسباب، واختلاف طبيعة الأشخاص وسُبل تفكيرهم، تتعدَّد الحُلول، ولا حَلّ مِنها يخلوا من التجربة. فالتجربة أمر حتميّ، يجب أن تُجرِّب وأن تُخطئ، وأن تُجرّب مرّة أخرى وتُخطئ مرّة أخرى أيضاً، وأن يسخروا مِنك فلا يزيدك ذلك إلا ثباتاً وصبراً وقوّة، فتجرّب ثالثةً ويقلُّ الخطأ عندها رافعاً معه منسوب الثقة. 

          

كما أنّ الاستعداد الجيّد لأيّ خِطاب مُسبقاً هو أمرٌ ضروريّ، فكُل حضور يحتاج إلى تحضير، والتدريب المُسبق على انفراد والحديث أمام المرآة – وإن اعتبره البعض جنوناً، أو قواعد نظريّة فلسفيّة – له عظيم الأثر على أسلوبك وأداؤك، على الأقلّ في المرّات الأولى، وعند تَكرار التجربة والاعتياد عليها سيصبح المسرح صديقاً مألوفاً تتجلّى عليه باستمتاع غير مسبوق، ويندثر خوفُكَ من تلك الخشبة. كُن مميّزاً، لا نحتاجُ مزيداً من النسخ الكربونيّة، واسمح لفيض حُروفك بالتدفّق ولذاتك بأن تُعبّر عما فيها.  نعم، لذّة شُعور الإنجاز التي تصعُب على أعتى أنواع المُخدِّرات الوصول إليها، نظرات الإعجاب، التصفيق المستمرّ، شُعور القوّة وتحقيق الذات، كُلّها أمورٌ تستحقُّ أن تخوضَ غِمار تلك المحاولة، لكنّها ليست هدفاً.

        

الهدف الرئيسيّ يَكمُن في ذاتِك أنت، إنّه الإثباتُ الفعليّ لنفسكَ أولاً وللعالم بأسره ثانياً أنك قادرٌ على مواجهة ذاتِك ومخاوفك، كما أن قُدرتك على كسِب هذا الرِهان بحدِّ ذاتها إنجاز إن تَمّ تحقيقه سيكون عظيماً وسيفتح باباً للمزيد من التحدّيات للذات مِمّا سيجعلك بالتالي أفضل. وختاماً، سترتجف يداك، ستتعرّق، رُبّما سيسخرون منك، قد تسقط وتشعر بالإخفاق، وينتابك الشعور بالفشل الذريع، لكن لَن تقتلك كُلّ هذه الأمور، ما سيقتلك حقاً إذعانك المُستمرّ وإفساح المجال لها للسيطرة عليك، عندها ستقتلك دون إبداء أي رحمة، وتقتل معها الشغف والتميّز والطموح فيك، لذلك لا تستسلم، أبداً.. قطعاً.. مطلقاً، خُض معركتك الخاصة مُتذكراً دوماً مقولة " مَن لم يزِد شيئاً على هذه الحياة كان زائِداً عليها ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.