هناك خطٌّ دقيق يفصل بين الحذر والجُبن، كما أن هناك خطًّا دقيقًا يفصل بين التهور والشجاعة، والحكيم العاقل هو الذي يستطيع التمييز بين هذه المتجاورات. وكما هو معلوم فإن الحياة تحوي الكثير من المخاطر، وهذه المخاطر تدفع الناس في كثير من الأحيان للتردد في اتخاذ قرار ما خوفًا من الفشل، وهذا الخوف قد يصبح خوفًا مَرَضيًّا أشبه بـ (الجُبن) في ساحات الوغى، وهو يؤدي إلى خسارة فرص كثيرة، كان يمكن تحقيق فائدة كبيرة منها.
لقد تعلمت من والدي – رحمه الله – درسًا كان عنوانه (اللي بِخافْ بِرْبَحْش)، ومعناها (الذي يخاف لا يربح). والخوف المذموم في هذه الحكمة هو الخوف المبالغ فيه، هو الخوف الذي يدفعك للامتناع عن اتخاذ قرارات جريئة قد يكون فيها تحقيق إنجازات مميزة في مجالات شتّى في حياتك، سواء كان ذلك في تربيتك لأبنائك أم في عملك السياسي أم في المجال العلمي، وغير ذلك. ولنضرب مثلًا من مجال العمل التجاري لتوضيح الصورة: لقد رأيت في حياتي رجال أعمال كثيرين تغيرت الظروف من حولهم، وكان ذلك يستدعي منهم أن يتخذوا قرارات جريئة منها مثلًا تغيير مجالات عملهم، أو تعديل السياسة التي يتعاملون فيها مع زبائنهم، فامتنعوا من ذلك خوفًا من الإخفاق، ولم يتمتعوا بصفة (الجرأة) اللازمة للنجاح، ففاتهم قطار النجاح، وتقدم غيرهم وهم مُتَسَمِّرون في أماكنهم لا يبرحونها، حتى صار لحاقهم بقطار تقدم العمل غير مجدٍ ولا واقعي.
الذي يخاف (الخوف الزائد) لن يربح، بل هو في أحسن حالاته سيبقى محافظًا على المكان الذي هو فيه. هذا الذي ذكرتُه عن الخوف المبالغ فيه، والذي يعيق التقدم |
صحيح أن المغامرة قد توقعك في الخسارة، ولذلك يجب أن تكون المغامرة محسوبة، فالقفزات الكبيرة غير محمودة، إلا إن كانت اضطرارية، لأنها ستجعلك بين خيارين، نجاح مميز راسخ، أو دمار كامل، بينما العاقل يخوض المغامرات بشكل يبقي له طريقًا للتدارك، فلا يضع بيضه في سلة واحدة، ولْأضرب لذلك مثالًا من واقع التجارة: نفترض أن مجال عملٍ ما بدأ يصيبه كساد، وفي نفس الوقت بدا مجالٌ آخر للعمل يصبح واعدًا، ولم تكن هناك معطيات واضحة لمسير التغيرات المستقبلية، في مثل هذه الحال فإن الخيارات التي أمام صاحب العمل ستكون:
1. التمسك بمجال العمل الأصلي الذي يعمل فيه، رغم بوادر الكساد فيه، بدعوى أنه العمل الذي لدي فيه خبرة، وخوفًا من عدم النجاح في العمل الجديد.
2. تصفية عمله الأساسي الأول الذي تراكمت خبرته فيه، والانتقال كليًّا إلى عمل آخر في المجال الذي يبدو واعدًا.
3. العمل على الانتقال التدريجي بين العملين، فيبدأ بتقليل حجم عمله الأصلي، ووقف التوسع فيه، ويشرع في إنشاء عمل آخر في المجال الذي قد يكون واعدًا، فإذا استمرت المؤشرات في كساد المشروع القديم، وانتعاش الجديد، يعمل على تقوية المنتعش، والتقليل من حجم العمل الكاسد تدريجيًّا.
الاختيار بين هذه الخيارات يتحدد وفق طبيعة صاحب العمل، فـ (الجبان) الخائف خوفًا زائدًا، يلجأ للخيار الأول، وفي حال اكتمال كساد مشروعه الأصلي، فإن خسارته ستكون كبيرة يصعب تعويضها. الخيار الثاني، يختاره المتهورون، إذ أن هناك مغامرة غير محمودة في الانتقال كليًّا من العمل في المجال الذي تتقنه إلى مجال جديد عليك، دون مؤشرات قوية ترجح كون ذلك خيارًا لا مناص منه، وقد يتعرض فاعل ذلك إلى خسارة كلية، إن كسد العمل الجديد، فيكون (لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى). الخيار العقلاني والمنطقي هو الخيار الثالث، إذ هو الخيار الذي يحفظ لصاحبه خطَّ الرجعة، والانتقال المتدرج من مرحلة لأخرى، وهو يضمن إذا كشفت التوقعات عن أن هذه التغيرات كانت مؤقتة غير ثابتة إمكانية عودة صاحب العمل لمشروعه الأصلي، ويضمن في حال ثبات التغيرات انتقالًا سلسًا للمجال الجديد.
هذا الخيار الثالث هو المقصود من هذه الحكمة: (اللي بخاف بيربحش)، لأن الذي يخاف (الخوف الزائد) لن يربح، بل هو في أحسن حالاته سيبقى محافظًا على المكان الذي هو فيه. هذا الذي ذكرتُه عن الخوف المبالغ فيه، والذي يعيق التقدم، لا يقتصر على مجال التجارة وحدها، بل ينطبق على سائر أمور الحياة. في تربية الأبناء تجد أن الذي يبالغ في خوفه على أبنائه، فيمنعهم من الخروج من البيت لئلا يتضرروا، ويمنعهم من المشاركة في الألعاب الرياضية لئلا يتأذَّوا، ويمنعهم من الذهاب في رحلات خارجية مع أصدقائهم لشدة خوفه عليهم، فإنه يجني عليهم، نعم، هو قد يربح (سلامتهم) ولكنه يقينًا سيخسر (تطوّر شخصياتهم) فينشؤون منطوين ضعاف الثقة بأنفسهم.
في مجال العمل السياسي لا يمكن لسياسي يبالغ في خوفه من التعبير عن رأيه خشية خسارة بعض مؤيديه إلا أن يقوده ذلك إلى خسارة أكبر، فهو سيخسر تأييد العقلاء والفاعلين الذين لا يقفون إلا بجانب من لديه الجرأة ليعبّر عن الأفكار التي يؤيدونها. وفي المجال العلمي فإن الباحث الذي يخاف من الإقدام على نشر نتائج أبحاثه لأنها غريبة على المجتمع العلمي، قد يخسر فرصة الحصول على ميزة السبق في اكتشاف تلك النتائج. نحن بحاجة إلى أن نتعلم هذا الدرس ونفهمه، وننتقل به إلى مربع التطبيق فنتمتع بالجرأة الواعية، والإقدام المتبصّر، والشجاعة الحكيمة، وإلا كنا معرضين لأن نبقى واقفين في أماكننا تتجاوزنا الأحداث، وحينها لات حين مندم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.