شعار قسم مدونات

السعادة باعتبارها هدنة مع الحياة

blogs - رواية هدنة
"سانتومي: مما لاشك فيه أن الرب قد خصني بمصير مظلم، لا يمكن القول إنه مصير قاسٍ، بل هو مظلم وحسب، ومما لا ريب فيه أنه منحني هدنة، لقد قاومت في البداية ولم أقتنع بأنه يمكن لهذه الهدنة أن تكون هي السعادة". من رواية الهدنة.. بنديتي. 
عندما تشرع في قراءتها، يتسرب الملل إلى نفسك، تغريك المكتبة المثقلة بالكتب على استبدالها بأخرى، تحدث نفسك أنك وقعت في ورطة اختيار كتاب سيء، لكن ما إن تتوغل في أعماق الصفحات قليلاً حتى تعتذر للحروف الماثلة أمامك وتتسمر ساعات طويلة أمام روعتها ودهشت أحداثها وشاعرية نصوصها.

عن رواية" الهدنة" لـماريو ماريو بينديتي أحدثكم، وعن "سانتومي" الشخصية الرئيسية في الرواية، وقد أهدته الحياة هدنة قصيرة من آلامها وأوجاعها ومنحته السعادة على شكل حب مباغت، أتساءل وأنا أقرأ هذه الرواية؛ هل يمكن أن تكون السعادة مجرد هدنة مع الحياة، ما نلبث بعدها أن نتبادل معها الاتهامات في خرقها والعودة إلى تصويب الآلام نحو أنفسنا وإطلاق نار التيه والأحزان على قلوبنا، هل السعادة هدنة بوصفها حالة مؤقتة لا دائمة؟ تجيب أحداث الرواية نفسها بـالإيجاب.

كل التناقضات والأحداث الإنسانية والمعاني العميقة جمعها ماريو بينديتي في شخصية "سانتومي" وحياته؛ الأولاد الذين لا يشبهونه في شيء، وحياته المملة بعد وفاة زوجته التي يقضي جلها بين أوراق الحسابات التي قضمت جزءا كبيراً من عمره، يتساءل في أحيانٍ كثيرة عن أي شيء حققه في حياته يستحق الذكر أو التذكر، ثم لا يجد أشياء كثيرة، مجرد حياة رتيبة مرت بين يوميات أولاده ودفاتر حساباته التي لا تنتهي.

يشبهكم سانتومي، أو على الأقل يشبه شيئاً ما في داخلكم، وإن لم يكن؛ فاقرؤوا ها هنا أنفسكم في الخمسين. أثق أنكم ستحبون "الهدنة" وتعيدون قراءتها كثيراً

ثم يحدث أن تشرق في حياته امرأة شابة "ابييانيدا" وتضيء في قلبه شعلة صغيرة سرعان ما تكبر وتتعاظم إلى الحد الذي يجعله يشعر بالسعادة، ذلك الشعور الذي غادره ردحاً طويلاً جداً من العمر في تلك اللحظة نفسها التي دفن فيها زوجته وطمر مفردة السعادة إلى جانبها. تركت له بعد وفاتها أطفالاً يتوجب عليه لوحده تربيتهم، وينبغي أن يكمل الطريق الطويل بمفرده نحو اللاشيء، ثم أنه يفكر الآن وهو مقبل على التقاعد، عن حياته الجديدة، التي يرغبها بشدة، سير حثيث نحو البطالة، لكن شعور الخوف والتساؤل عن كيف ستكون لا يفارق خياله. غير أنه لم يخطر بباله أن حباً جديداً يوشك أن يطرق باب قلبه ويغمر روحه ببعض النور.

أدهشتني تلك العبقرية الرائعة التي جمعت في تصويرها للحياة الاجتماعية بين السخرية التي تصل حد المرارة وتجبرك على أن تبتسم، بل أن تضحك أحياناً بصوت مسموع، ثم ما تلبث أن تدفن رأسك بين الكتاب متأملاً وحزيناً لمآلٍ ما.

إنها رواية شاعرية لأبعد حد، لا تحمل نهاية سعيدة، بل تؤكد أن النهايات دائمة سيئة، مثقلة بالفقدان، ومليئة بالخيبات المتراكمة. إذ حين تتسلل السعادة إلى روحه على شكل حب مفاجئ، ما يلبث الأمر أن يتحول إلى مأساة أخرى تطمر قلبه بالمزيد من الحزن وتغلف روحه بالهزيمة؛ فتموت المرأة التي أحبها ويكسوا قلبه الحزن من جديد، وبعد أسابيع تبدأ البطالة ويحال للتقاعد، يكتب في يوميات ذلك اليوم الكئيب : لقد كان الإله هو أهم ما أفتقر إليه، ولكنني أحتاج إليها الآن أكثر من حاجتي إليه.

يشبهكم سانتومي، أو على الأقل يشبه شيئاً ما في داخلكم، وإن لم يكن؛ فاقرؤوا ها هنا أنفسكم في الخمسين. أثق أنكم ستحبون "الهدنة" وتعيدون قراءتها كثيراً.
مؤلف الرواية "بينديتي" شخصية مشهورة عالمياً. هو روائي وأديب وشاعر من أوروغواي ترجمت أعماله للعديد من اللغات، وروايته التي نحن بصددها ترجمت إلى عشرات اللغات، هي حقاً رواية استثنائية. وكما يفعل الكتاب الكبار، الرائعون والمدهشون، يجعلنا بينديتي نبحث أكثر في أعماق بلده، عن قصصه وتاريخه وثوراته، وعن أحداث هذا الجزء من العالم الذي يشبهنا نحن القاطنون في الشرق الأوسط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.