ما زلت أذكر يومها كيف أن خليجياً حين جاء طالباً إلى تركيا اتصل بأمه يطلب العودة السريعة إلى بلده، فهذه البلد لا يُعاش فيها كما أخبرها يومها وهو باكياً مُرُ البكاء، جرت مياه كثيرة خلال العقدين الماضيين في تركيا ومنها العلاقات العربية ـ التركية، ومعها جرت سفن السائح العربي الذي غدت وجهته إلى تركيا كأولوية قبل أي وجهة أخرى، أسعى اليوم إلى تحديد الفروق بين إسطنبول عام 1987 وإسطنبول 2017، فأجد أن التعامل مع العربي اليوم لا يُقارن بما كان عليه في تلك السنوات، فكما قيل الناس على دين ملوكهم، ولعل هذا أكثر ما يتجلى اليوم فيما أكتبه اليوم.
إسطنبول اليوم التي تضخمت بشكل كبير، فكانت قبلة المهضوم كما يقول إخواننا في قطر، فآوى إليها العراقي والسوري والمصري والليبي واليمني وغيرهم، وغدت إسطنبول عربية في بعض أحيائها أكثر مما هي تركية عثمانية، فحصلت عملية المزاوجة بين العثماني التركي والشامي، في المطاعم والشركات وغيرها.
ترى اليوم في تركيا وفرة السائح العربي عن وفرة السائح الأجنبي عام 1987، ولعل هذا يحدد الفارق بين إسطنبول الأمس وإسطنبول اليوم، ومن أراد الاستزادة عن إسطنبول الأمس فعليه برواية "إسطنبول" |
إسطنبول التي تعج بالحياة وصخبها، والتي كانت تنام هادئة مبكراً في الثمانينيات ها هي اليوم تصحو حتى الصباح، تمشي في شوارع يوسف باشا وجادة ووطن ويوسف باشا فتتخيل أنها أحياء عربية من كثرة الزوار العرب فيها، ولم يعد ذلك حصراً على أشهر الصيف فحسب، لكن أكثر ما يزعجك في إسطنبول هو زمامير سيارات الإسعاف والتي تُشعرك وكأنك في مدينة تخوض حرباً وجودية على مدار الساعة، فسيارات الإسعاف التي تفتح زماميرها منذ انطلاقتها إلى عودتها، غير آبهة بنائمين ولا مستريحين، وغير آبهة بطريق مفتوح أمامها.
بعد أن أديت صلاة الفجر يوم الأربعاء الماضي في مسجد من مساجد فندق زادة، نزلت أتمشى في شارع عدنان مندريس، كان الجو جميلاً وإسطنبول لم تبدأ صخبها، كما شوارعها، ولكن ذُهلت حين رأيت سيارة الإسعاف وقد فتح زموره على أقصاه بينما الشارع لا يوجد فيه قطة واحدة، وسعيت متلصصاً لأستكشف وجود مريض في داخل سيارته فلم أعثر، بينما كانت سيارة إسعاف أخرى تغذُ السيارة بصمت في ظل خلو الشارع أمامها مما يضايقها.
يروي لي أحد أصدقائي الفلسطينيين كيف استقل سيارة إسعاف لاستقبال مريض قادم إلى المطار، وكان موعد وصول المريض بعد ثلاث ساعات من تحرك سيارة الإسعاف من مكانها، يضيف صديقي وما إن ركبنا السيارة صوب المطار حتى فتح السائق صوت مزمار الإسعاف، وحين سألته لماذا تفعل هذا ولم تحط الطائرة بعدُ، فأجاب هكذا تعودنا، ونأمل من القائمين على هذه المدينة العريقة النظيفة التي تنافس كبرى العواصم العربية وتبزها في النظافة والأناقة أن يكون لهم دور في تعويد سائقي سيارات الإسعاف على الإحساس بالآخر.
إسطنبول التي أحببناها لنا فيها حصة، ولكل من حكمتهم لأربعة قرون لهم حصة فيها ولذا نرى فيها رائحة أجدادنا وصمودهم وصبرهم، ونرى فيها جنك قلعة، وغيرها من الحروب والمعارك التي شارك فيها أجدادنا في الشام وغير الشام، تذكرنا مساجدها العريقة وقصورها الفخمة وكل ما فيها بأجدادنا الذين حكمتهم، تماما كما تذكرنا الشام وبغداد بحكمها لنا، إنها تذكرنا اليوم بتاريخ مجيد، وتذكرنا بحواضر عربية وإسلامية دنسها تتار العصر ومغوله اليوم بينما بقيت إسطنبول شاهدة على الصمود في وجههم تقاومهم وتدافع عن عواصم مغتصبة.
لم يعد السائح العربي يحس بالغربة في إسطنبول وهو يرى مطاعم عربية، ولغة عربية فصيحة، وإرشادات سياحية، وقدرة على التنعم بإقامة سياحية، تتحرك وكأنك تتحرك ببلدك العربي، لم تعد في إسطنبول غريب الوجه واليد واللسان، فإسطنبول اليوم غير إسطنبول الأمس، بدأت الكيمياء تأخذ دورها ومفعولها بين التركي والعربي، ولعل هذا يؤسس لعلاقات مهمة بين الشعبين، يُعيدان فيه تاريخاً مجيداً سعى الأجانب الأغراب عن هذه الأمة إلى سلخه وتشويهه، للاستفراد بكل شعب من شعوب الأمة على حدة، فترى اليوم وفرة السائح العربي عن وفرة السائح الأجنبي عام 1987، ولعل هذا يحدد الفارق بين إسطنبول الأمس وإسطنبول اليوم، ومن أراد الاستزادة عن إسطنبول الأمس فعليه برواية "إسطنبول" للروائي التركي أورهان باموق التي أبدع فيها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.