بين عاطفية تجعلنا نثور بسرعة وننسى بسرعة، فلا نستوعب الدروس لأننا لا نستعمل عقلونا في اتخاذ قرارات المصيرية بل العواطف، وبين غياب القدرة على تقدير النوازل والأحداث بقدرها، فلا نملك إمكانية رؤيتها في حجمها الطبيعي دون زيادة أو نقصان تعيش شعوبنا حالة من اللاوعي الذي يخفي في ثناياه اصرار على الخطأ وتمسك بالباطل وثناء الظالم، فلا نتقدم إلا للخلف ولا نتحسن إلا في الظلم ولا نصل إلا إلى ما ينفعنا ولا يضرنا.
تعود الكثير من الذين يصفون أنفسهم بالمثقفين على لوم الشعوب ووصفها بأسوأ النعوت وأكثرها إيلاما، لأن الكثير منها لا يقف في وجه الحاكم الظالم ليقول لا !، الكثير من هؤلاء المثقفين كفر بشعبه فاختار أن يعيش خارج أسوار الوطن، في باريس، لندن أو واشنطن، ليطل في مقالاته، بلاطوهات ،كتاباته أو زياراته النادرة لبلده ناقما على الوضع ممتعضا من الذي وصلت إليه أخلاق شعب الذي ينتمي إليه، رغم أنه كان مضربا للمثل في تحضره ورقيه وأنفته وعلو أخلاقه، ليتحول إلى ما يشبه الزومبي في أفلام الرعب، شعب لا يفكر إلا في الهجرة إلى ما وراء البحر، من أجل الحصول على حياة أحسن ومرافق أنظف وحياة كريمة، لم يستطع بنائها على أرضه.
المجتمعات التي تعتبر المجانين حكماءها والعرافين أطباءها والحكام آباء، محتقرة علماءها وعقلاءها، المجتمعات التي أضحت ترى الظلام نورا والنور ظلاما، تعيش قانعة في ظلال الاستبداد والاستعباد راضية تارة ومزمجرة تارة أخرى، مجتمعات أنتجت نوع جديد من الأفراد، الراضين بدور الضحية الذي أصبح يستهويهم ويلبي رغباتهم النفسية، باستجداء الشفقة، وطلب الرحمة، فئة تفرح حين تظلم لتؤكد موقفها، وتشقى حين يأتي من يبحث عن استرداد حقوقها، لأنها ترى أن الأمر مستحيل وشعارها "لا تحاول فلن تستطيع"، وهم يشبهون إلى حد بعيد العبد الذي ولد، وشب وهرم في العبودية، فإن أراد سيده تحريره رفض لأنه لا يعرف غير العبودية حل.
ما ينقص شباب اليوم هو توحيد الهدف، لأن الاستعمار الذي كان ظاهرا في القرن الماضي، أضحى فكريا في عصر العولمة، واستطاع أن يخلق كما هائل من الفرقة بين مختلف مكونات المجتمع والأمة |
صحيح أن المثقف قد يصنع المجتمع ويبني نظامه وينمي خصوبته، لكن إن توفرت له الاستقلالية والحرية والقدرة على الابداع والتواصل مع مجتمعه وهو الأمر الغائب في مجتمعاتنا، لهذا استبدل الأول بمثقف البلاط، الذين ينظر لأفكار الحاكم ويسوق ما يراه النظام، تحت شعار المصلح أولى من الثقافة والولاء أولى من الحق الشعب في التعلم والفهم، مما أنتج شعوبا فاقدة لبوصلة الحق ولا تعي كيف يكون سبيل النهضة .
انفجر الشباب في وجه تلك الأنظمة الخبيثة ومثقفيها الأبالسة، تحت شعار الحرية يدفع ثمنها جيل والعبودية يدفع ثمنها أجيال، انفجار واجهته الأنظمة بالحديد والنار، فكانت النتيجة الآلاف من القتلى والآلاف من المهجرين، والملايين من اليائسين واليائسات، أسمى ما أتمناه لهم، محافظتهم على صحتهم النفسية، فجروح الأجساد تندمل لا محالة، أم أمراض النفس فلا.
الذي حدث بعد موجات الثورات، هو طفرة فكرية، تزعمها المدونون الجدد، على مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات التدوين، شباب وشابات تحولوا إلى أيقونات افتراضية موازية لقنوات وجرائد الأنظمة المستبدة، أغلبهم أنطقه الظلم والجور، في محاول لإسماع صوته واطلاق صراخات بما يؤلمه ويحرق فؤاده، شباب ينتقد الأنظمة بشكل تلقائي، ويعرض ما يعيشه من مآسي وآلام وأحلام شبابية تتراوح بين الزواج والحب والحرية، مواضيع يعالجها كل حسب رؤيته وتأثره، بين متعرب ومستعرب ومتغرب وطائفي وعلماني وثوري وإسلامي، تفرقهم الرؤى ويجمعهم الصدق في الطرح والإيمان بالأفكار، في محاكات لما كان في النصف الأول من القرن العشرين من تعدد التوجهات الشباب بين اليسار واليمين والقومية، الاشتراكية، والذي خلق تطاحن بين هذه التيارات التي سرعان ما توحدت في الرؤية حين تعلق الأمر بطرد المحتل من الأرض، ومقاومة الاحتلال في فلسطين.
إن ما ينقص شباب اليوم هو توحيد الهدف، لأن الاستعمار الذي كان ظاهرا في القرن الماضي، أضحى فكريا في عصر العولمة، واستطاع أن يخلق كما هائل من الفرقة بين مختلف مكونات المجتمع والأمة، وعوض أن تبحث عن مساحات الالتقاء أضحت تفكر في طرق الإلغاء والتصفية، فالبعض تحت شعار كسر الطابوهات يحاولون كسر الدين، والبعض بهدف نصرة الدين يدنسون قدسيته، أصوات التطرف عالية من الجهتين، فشدة الشهوة الفكرية في مجتمعاتنا جعلت الظهور فيها ينحصر في الشواذ فكريا.
لقد أظهرت مرحلة ما بعد الربيع العربي، أن ما كان يظهر كهدف رئيسي لكل المدونين والذين أعتبرهم قادة الفكر الجديدة، والمرتبط بكسر رؤوس الأنظمة المستبدة كان هدفا ناقصا لأن الثورات ضربت الأنظمة ولم تفكك المنظومة، وهو ما جعل المنظومات العتيقة في الوطن العربي تعود للظهور، مما أوقع الشباب أمام حالة من الشك في جدوى كل التضحيات التي قدموها طيلة السنوات 06 الماضية، بل وجعل البعض يفقد الأمل في القدرة على التغيير، نظرا لعمق العلب السوداء المسيرة للأنظمة المستبدة في الوطن العربي.
الأوطان باقية لا تخلد إلا الذين تميزوا في خدمتها وتفانوا في إصلاحها، نابذين النزعة الشخصية الباحثين عن مصلحة المجتمع، وإن كان المجتمع غافلا عن مصلحته |
الإشكال الأكبر ربما هي أن جل ما سبق يحصل في دوائر ضيقة قوامها مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يعني أن هناك فئة أخرى من الشعب لا تزال تخضع لتأثير واحد ووحيد وهو مثقفي السلطة من خلال قنواتها التي لا تزال قوية وفعالة، وهو ما جعل الثورات المضادة أو ما يعرف بالطابور الخامس ينجح في إجهاض الثورات التي قامت في الربيع العربي، من خلال استعمال التلفزيونات خاصة والجرائد بشكل أقل في صناعة وتوجيه الرأي العام إلى ما يخدم المنظومات الحاكمة، بالإضافة للاختراق الذي أصاب مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات التدوين من خلال مزارع الكترونية مخابراتية، أضحت تحارب كل ما يضر المنظومات الحاكمة.
مما جعل المثقفين الشباب أمام تحديين، أولهما القدرة على الخروج إلى جمهور أكبر خارج مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات التدوين أو انتظار دخول عدد أكبر من الأفراد إليها، والتحدي الثاني هو القدرة على تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة من خلال تحويل سهامهم من محاولة إثبات التفوق على باقي التوجهات إلى توحيد وترشيد الأهداف، وتحويلها من ضرب الأنظمة إلى ضرب المنظومات الإيديولوجية المختفية وراءها، ولا سبيل لهذا إلا من خلال شعب متعلم فاهم مدرك قادر على الوصول إلى محلة الوعي، وذلك بتكسير صنم الجهل الذي قتل لدى مجتمعاتنا الروح العلمية والقدرة على الفهم وعمق الإدراك فكانت النتيجة شعوب تبحث عن الوعي والفهم قبل أن تحصل العلم، مما جعلها تسقط في ضحالة الغباء وذل الاستعباد، معضلة لن تحل إلا بعد أن نعيد اكتشاف معنى " اقرأ ".
الأوطان ليست في حاجتنا، بل نحن في حاجتها، وإن مررنا دون أن نستطيع تغيير شيء، فسنكون جيلا آخر مر دون أن يترك بصمته لينسى كما نسي الملايين قبلنا، أما الأوطان فباقية لا تخلد إلا الذين تميزوا في خدمتها وتفانوا في إصلاحها، نابذين النزعة الشخصية الباحثين عن مصلحة المجتمع، وإن كان المجتمع غافلا عن مصلحته، وعلينا أن نتذكر أن الحياة ستقسو علينا أكثر كلما كانت أحلامنا أكبر، فلا مجال للوم الظروف إن قررنا أن نكون رساليين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.