فمحاربة العدو عمل يريد أن يقوم به الإنسان، ولكن لمّا كان يريد أن يندفع لذلك بمقدار ما يملك من قوى مادية صار اندفاعه محدوداً بها وصار متردداً في القيام بالعمل مع توفرها حين عرضت له عوارض بعثت فيه الجُبن والتقاعس. وهذه هي الحالة التي يدّعيها حكام الدول العربية في مواجهة إسرائيل.

وهذه بخلاف القوى المعنوية، فإنها تبعث في النفس تيار القيام بالعمل أولاً ثم تسعى للحصول على القوى الكافية للقيام به دون أن تقف عند حد قواها الموجودة، وقد تندفع بأكثر مما تملك من قوى مادية عادةً وذلك كمن يريد أن يحارب عدوه لتحرير نفسه من سيطرته أو للدفاع عن نفسه وبلده أو للأخذ بالثأر أو للشهرة أو انتصاراً للضعف أو ما شاكل ذلك، فإنه يندفع أكثر مما يحارب عدوه للغنيمة أو للاستعمار أو لمجرد السيطرة أو ما شابه ذلك، وهذا حال العراق في حربه مع إيران.
والسبب في هذا أن القوى المعنوية هي دافع داخلي مربوط بمفاهيم أعلى من المفاهيم الغريزية ويتطلب إشباعاً معيناً فتندفع القوى لإيجاد الوسائل لهذا الإشباع فتسيطر على المفاهيم الغريزية وتسخِّر القوى المادية، وبذلك تصبح لها هذه القوى التي تفوق القوى المادية. ومن هنا كانت دول العالم كله تحرص على إيجاد القوى المعنوية لدى جيوشها مع استكمال القوى المادية. ففي كل جيش دائرة للتوجيه المعنوي. فالجندي الأمريكي الذي يحارب خارج بلاده مثلاً يُربط عادة بمفاهيم مثل الدفاع عن حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية في العالم، وأمريكا هي الأعظم وهي حامية هذه القيم، كما يُربط الجندي الفرنسي بمفاهيم عن عظمة فرنسا وعظمة ثقافتها وصلاحيتها للإنسانية.
إدراك الصلة بالله والشعور بها إدراكاً وشعوراً يقينيين هو الأساس الذي تقوم عليه حياة المسلم، وهو القوى التي تدفعه للقيام بأي عمل صغُر أم كبُر. فهو الروح التي تقوم بها حياته الدنيوية في جميع أعماله |
أمّا القوى الروحية فإنها أقوى تأثيراً في الإنسان من القوى المعنوية والقوى المادية، لأن القوى الروحية تنبعث من إدراك الإنسان صلته بالله خالق الوجود وخالق القوى. وهذا الإدراك العقلي أو الشعور الوجداني بهذه الصلة بالله يجعل اندفاع الإنسان بمقدار ما يطلب منه الخالق، لا بمقدار ما يملك من قوى، ولا بمقدار ما يمكنه أن يجمع من قوى. ومن هنا كانت القوى الروحية أكثر تأثيراً من جميع القوى التي لدى الإنسان.
إلاّ أن هذه القوى الروحية إن كانت ناجمة عن شعور وجداني فقط فإنه يُخشى عليها من الهبوط والتغير بسبب تغلب مشاعر أخرى عليها أو تحولها بالمغالطة إلى أعمال أخرى غير التي كانت مندفعة لها. وقد حرص الإسلام منذ البداية على أن يكون إيمان المسلم وصِلته بالله مبنيان على العقل وناتجان عن إدراك يقيني بالله، هو الخالق وهو المدبر وأن كل ما في الكون مرتبط ومسيَّر بأمره، ولذلك كان لزاماً أن تكون القوى الروحية ناجمة عن إدراك وشعور يقينيين بصلة الإنسان بالله، وحينئذ تثبُت هذه القوى ويظل تيارها مندفعاً بمقدار ما يُطلب منها دون تردد.
وإذا وُجدت القوى الروحية لم يصبح أي أثر للقوى المعنوية لأن الإنسان حينئذ لا يقوم بالعمل بدافعها بل بدافع القوى الروحية فقط، إذ لا يحارب عدوه لأخذ غنيمة ولا لفخر النصر، بل يحاربه لأن الله طلب منه ذلك، سواء حصلت له غنيمة أم لم تحصل، نال فخر النصر أو لم يعلم به أحد، لأنه لم يقم بالعمل إلاّ لأن الله طلب منه ذلك. وفي تاريخ المسلمين أمثلة لا تُحصى على ذلك.
أمّا القوى المادية فإنها تصبح وسائل للعمل لا قوى دافعة عليه. وقد حرص الإسلام على جعل القوى الدافعة للمسلم قوى روحية حتى ولو كانت مظاهرها مادية أو معنوية، إذ جعل الأساس الروحي هو الأساس الوحيد للحياة الدنيا كلها (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)، فالنصر أو الشهادة كلاهما مرتبطان بالأساس الروحي، فالنصر نصر لدعوة الله ودينه، والشهادة تقديم الروح في سبيل نصرة دين الله، وكلاهما لنيل رضوان الله تعالى. والمسلم يدرك أو يجب أن يدرك أن أساس الحياة الدنيا هو صلته وصلتها بالله الخالق، فالمسلم يحيى بدينه ولدينه. فجعل العقيدة الإسلامية أساس حياته، والحلال والحرام مقياس أعماله، ونوال رضوان الله غاية الغايات التي يسعى إليها. وحتم عليه أن يقوم بأعماله كلها صغيرها وكبيرها بحسب أوامر الله ونواهيه بناء على إدراك صلته بالله تعالى.
فإدراك الصلة بالله والشعور بها إدراكاً وشعوراً يقينيين هو الأساس الذي تقوم عليه حياة المسلم، وهو القوى التي تدفعه للقيام بأي عمل صغُر أم كبُر. فهو الروح التي تقوم بها حياته الدنيوية في جميع أعماله، وبمقدار ما يملك من هذا الإدراك والشعور يكون مقدار ما عنده من قوى روحية. ولذلك كان واجباً على المسلم أن يجعل قواه هي القوى الروحية، فهي كنزه الذي لا يفنى وهي سر نجاحه وانتصاره، كما أنه عليه أن ينمي هذه القوى بتنمية إدراكه وصلته بالله وتعميقه وتنقيته عقلياً ووجدانياً.