شعار قسم مدونات

الموت ولا المذلّة

مدونات - الموت ولا المذلة
"هل الموت ما تفعلين بي الآن أم هو موت اللغة؟"
(جداريّة)

"إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ سَلَفُوا مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لاَ نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا التُّرَابَ" (الصحابيّ المخضرم خَبَّاب بن الأَرَتّ التميمي)

تبدو هذه المقابلة مقابلةً بصيرةً بسيرة الثورة التي سنتها شعارًا طريقًا لاحبًا لها. لا أوهام هنا مبتدئة حول عالم أو حقبة أقلّ جورًا، ولا قبول إذن بنتيجة الوعي بذلك. هذا الشعار الاستهلاليّ المبكّر، المنذر بولوج حقبة لم تكتمل ملامحها بعد، والأكثر تواترًا وإصرارًا من بين شعارات ثورة الكرامة، والتي تُسجى موجتها الأولى على أفق شاحب مبحوح، تجتمع على قمّته كلّ النوارس.. كلّ النوارس.. كلّ النوارس تعبى، في مدخلين للزيارة السريعة، مدخلٍ للدخول ومدخلٍ للخروج؛ أقول هذا الشعار يرسل برسالة اعتراض جوهريّة [في نبر عدميّ الدلالة] ضدّ المرحلة، ويؤسس كما أشعر لأفق أدبيّ جديد على أعتاب موتٍ كامل مبشر بنشور، موتٍ ضروريّ لكلّ الذين -إلّا قليلًا- لم يعتريهم شكّ فبادروا، ومن بعد هذا الموت ستشتعل حرائق في طرقات الناس، كلّ ما سلكوا طريقًا شبّت فيه النار في مشهد قياميّ الدلالة.

وقد يبدو لنا أنّ مفهوم التضحية هذا قديم، ومفهوم المقابلة بين موت وما دون الموت في قضيّة موقفٌ سجل كثيرًا في سير مختلفة، وربما متناقضة. هذا صحيح. ليس فرادة وجلالة هذا المبدأ أنه غير مسبوق، أو حتى أنّه قليل؛ وإنّما أنّه في كلّ مرّة يسجل فيه، في سيرة فرديّة أو جماعيّة مقتضبة، يستحق الذكر كما لو كان الأول والأسبق. وذلك أنّه في العمق لا قضيّة إِلَّا قضية الموت، ولا مصيبة إِلَّا مصيبة الموت، وحين يتمّ اختيار الموت يكون قد دُفع بالدنيا بعيدًا، وتمّ تحجيمها بحجمها وتقديرها بقدرها، الصفر.

ويبقى، رغم تواتر سير انتخبت هذه المقابلة الجليلة بين الموت والحياة؛ المتوقع والمنتظر أن يكون الشعار مثلًا الموت لأجل الكرامة أو الحرية بادئ ذي بدء، أو أن يكون التقابل الذي تنهض عليه الحركة الأولى تقابلًا لا يتضمن موتًا أصمًا أبكمًا، مقابل نعت سلبيّ. وكأنّه قيل أموت على أي حال لأنّ ما أناضل لأجله وأحلم به لن يتحقق أو غير متحقّق. كان مثلًا يحتمل أن يتضمن الشعار المحرك الأوّل ما هو دون الموت، كقولهم الجوع ولا الركوع.

الشعار يقابل بين الموت والمذلّة، عند الصرخة والحركة الأولى: أرفض المذلة التي أنا فيها، وأرفض استمرارها، وأرغب بالموت إن كان هو البديل الحتميّ لذلك.
الشعار يقابل بين الموت والمذلّة، عند الصرخة والحركة الأولى: أرفض المذلة التي أنا فيها، وأرفض استمرارها، وأرغب بالموت إن كان هو البديل الحتميّ لذلك.

في تلك الحالات النبويّة التي تقص سير من نزع ما دون جلده من لحم وعصب بمخالب من حديد، نتصوّر هذه التضحية، ونتصوّر أن يكون مثال المؤمن المعذب هو "عذابي هذا المميت ولا الكفر"، أي الموت ولا الْكُفْر، أي الموت ولا الحياة التي محتواها كفري، القسري المهين. لكن، بطريقة أو بأخرى، نحن نتصوّر أنّ هذا المؤمن كان قد تحقق بإيمانه فذاق حلاوته ولو لبرهة خالج فيه ما خالج، فإذًا هو لا يريد يخسر ما اختبر. لقد غادر حالة الكفر منفصلًا عنها. فلا يُتصوَّر أن يقول قبل إيمانه أنّه يفضّل الموت على الكفر لذلك سيؤمن، دون أن يكون موقفه هذا عدميًا لا يثير حتى السخرية.

هذا معناه حكمًا أنّ شعار الموت ولا المذلة لا يعني نريد الموت لذلك لن نذِّل بعد اليوم. والحال أنّ السوريّ كان يعيش في مذلّة متحققة، يعيش في هوان وحقارة تحت نير الأسديّة دون شائبة اعتراض أو تململ أو رفض لعقود؛ وهذا يعني أنّ الشعار الأوّل إذ يقابل بين الموت والمذلّة، عند الصرخة والحركة الأولى؛ يحيل إلى ما يلي؛ أرفض المذلة التي أنا فيها، وأرفض استمرارها، وأرغب بالموت إن كان هو البديل الحتميّ لذلك. والبديهي أنّه لحظة تحديد هذا الخيار الاحتضاريّ قد غادر حالة وروح المذلة، ولو لثانية، فليس من المقبول عقلًا أن يكون ذليلًا حال تفضيله الموت على الذِّلَّة.

لا يبدو استهلال ثورة بهذا الشعار استهلالًا مفهومًا على المستوى النفسيّ، رغم كوني قد أتفق مع ترتيبات لغويّة منطقيّة مقترحة تجعل الأمر بسيطًا. بمعنى، هذا الشعار يمثل تعبيرًا عن مركب نفسييّ اجتماعيّ(socio-Psychological) شديد التعقيد يتوق للبوح عن معالم حقبة تمضي ثقيلة، وأخرى لا تأتي ولا تصل. هذه هي الخيارات، أو هذا هو الخيار الوحيد الذي تبقى للسوريّ، وليس هذا اليوم فيما يُدّعى أنّ نهاية غير مناسبة تنشب أظفارها في رحم الزمن، ولكن منذ البداية، منذ ١٨ آذار، كان هذا الخيار الوحيد المتبقي، الخيار القسريّ، الطريق الوحيد ذا الاتجاه الواحد. إنّه خيار الموت، لأنّ المذلة المتحققة رفضت الآن وللتوّ، وليس لأنّ الكرامة المتحققة يجب ألّا تخسر. لم تتضمن شعاراتنا الأولى، حين الحديث عن الشعار العفويّ الأوّل، المثابر الإيقونيّ، مطالب مثل عيش حريّة عدالة اجتماعيّة، ولا الشعب يريد إسقاط النظام، هذه شعارات تأخرّت، ولم يكن لها ولمثلها تقاليد ذات صلة. ولا نموت نموت ويحيا الوطن، حيث المقابلة بين فعل وفعل، بين وطن متعيَّن على ما يبدو، وحياة فيه منشوده إن لم يتحقق فعل الموت؛ المقابلة في حالتنا كانت بين اسمين، ماهيتين أو كائنين، قدرين ضريرين، الموت الحتميّ أو الواقع مقابل الحياة المذَلَّة المتحققة.

لم تبق الأسديّة خيارات. لا خيارات معها أساسًا، وليس من طبيعة مثل الأسديّة أن يكون معها خيارات، إنّها كائن مصمت أصم وأبكم، حين يحضر يحضر الفناء والجثّة والخراب والعقم والشؤم، حضورًا كليًّا شاملًا.
لم تبق الأسديّة خيارات. لا خيارات معها أساسًا، وليس من طبيعة مثل الأسديّة أن يكون معها خيارات، إنّها كائن مصمت أصم وأبكم، حين يحضر يحضر الفناء والجثّة والخراب والعقم والشؤم، حضورًا كليًّا شاملًا.

إنّها خبرة نفسيّة غائرة في ضمير السوريّ، في طبيعة المشهود وطبيعة المنشود، وقبلها في طبيعة الكائن وطبيعة الممكن. نعرف منذ البداية، وقبل أن تنقض علينا ثعالب الحكمة، أن الخيار هو هذا، وأنّ طبيعة الصراع هو هذا، الذي وقع. كسرُنا أو هزيمتُنا أو استكانتُنا أو حتّى صمتنا، إن حدث، فليست هي سبب موتنا عندئذ، بل علامته. حين نصمت بعد هذه الصرخة وهذه الدهشة، يعني فقط أنّه قد تمّ إماتتنا، قتلنا حتى الموت. ويعني فقط أنّ الموت هو الذي انتصر، لا أحد آخر. الموت لا المميت.

لم تبق الأسديّة خيارات. لا خيارات معها أساسًا، وليس من طبيعة مثل الأسديّة أن يكون معها خيارات، إنّها كائن مصمت أصم وأبكم، حين يحضر يحضر الفناء والجثّة والخراب والعقم والشؤم، حضورًا كليًّا شاملًا. وحين يجب أن يعالج فإنّه لا يعالج إلّا بالاستئصال. وثمة خبرة بذلك، خبرة ثمنها عقود، وخبرة تفهم أنّ الحكمة والتعقّل لا يهزمان الموت، الذي هو خيارنا هنا، لأنّه المتبقي في نهاية مرحلة هي حكمت على نفسها بالنهاية، نهاية تلوك نفسها في احتضار طويل، يعالجه الناس بطرق مختلفة، لكنّه في كنهه احتضار واحد شديد الوطأة.

لا حاجة بِنَا إذًا لكلام الحكيم ولا لكلام الفيلسوف، فضلًا عن هواة المحللين وكتبة المقالات؛ لقد تمثلنا منذ البداية، لنفوّت عليهم فرصة التندّر بكلوم جثاميننا؛ تمثّلنا حكمة وفلسفة الموت، ورتبّنا أحلامنا كما رتبّنا جثث مصدقيها في القبر الجماعيّ، بعد زفّة المظاهرة؛ قبر امتد على مساحة الوطن. هل قلت "وطن"!

لكن هل متنا حقًّا؟ أعني هل تمّ قتلنا حقّا حتى الموت؟ تمامًا على الحقيقة فصار لنا جثمان وسال منها دم قانٍ؟ ولا أهذي أنّا قتلنا ولم نمت، ككائن محمود درويش الذي صرخ في وجه المجندة في حلمه بالقدس، أو كالهنديّ الأحمر الذي لم يكن موته إِلَّا حلوله المشتهى في الأرض والشجرة والهندباء ترقّصها ريحُ خلوِّ المكان من أهله في يوم ذي شمس وصفاء. وإنّما أريد واعيًا؛ هل تحققت المعادلة التي يقتضيها هذا الأقنوم؟ هذه الفلسفة الفذّة والبدائيّة المبتدئة والمنذرة بعدم نبيل أولّ ما يلغيها هي ليحلّ اللغو في الصلوات؟ أو بتفتّح مذاهب أكثر بداهة ووضاحة.

هذه المرّة ـــــــــــــــ ولا أنتمي لشعبين وقعا في فخّ كلّ على حدّة، ولا لشعب خاض تجربتين في حلق الموت فوقع في فخيّن مرتين متتاليتين، ولكن لكلّ الذين حاولوا النهوض فخانتهم الرُّكَب ـــــــــــــ؛ هذه المرّة ليس جلادنا بالمقدّس. منذ البداية كانت حيرتنا وقلقنا أنّنا نتعامل مع قاتل رخيص ووضيع، دنيانيّ مدنّس إلى حدّ مرعب، لا يجرؤ حتى على الادعاء بأنّه غير ذلك، فتخلو خطبه من وهج فروسيّ عدوّ يجعل من مقارعته أقلّ دنسًا، فتراه يستعيض عن العيب الطافح بخطابات طويلة ومملة وركيكة، بلغة لا نبر فيها ولا فصاحة، ولا معانٍ واثقة في عبارات سريعة وقوية وجامعة؛ يستعيض عن نقص في المضمون بنقص مضاعف في الشكل، تقطعها قهقهات تنذر بالشؤم وتتسبب بالقرف. ولذلك كان خيار الموت، ومجرد اختياره، في خبرة تَفهم أنّ احتماله أكبر من المقبول طبيعيّا في حالات مماثلة؛ يعني أنّ الموت تحقق فعلًا، الموت لذاته، لا لمشهديّته، ولا لمبارزته؛ تحققّ لكلّ الذين اختاروا هذا الخيار الأوحد، الأسبق فالأسبق، وهذا ما حدث فعلًا.

undefined

غياث مطر، حمزة الخطيب، عبد القادر صالح، وكلّ الذين قضوا نحبهم؛ اسمحوا لي أيها السادة بألّا اقطع الرجاء الواصل بين عدم وعدم، وألّا اسجي بالغار والسريّس اسمائكم على منعرج النهر لأعفيكم من ألم التحديق فيما لا تحبون؛ لأني أريد بكم ألّا أحسّ بألم تردد النفَس القسريّ فيما أواصل الجزء غير الضروريّ، حيث أرى إلى إلى سيركم تتكامل الى زهرة أقحوان، أو زهرتين، فيما يمكن أن نسميه وطنًا قليلًا. لكنّي قد أصم آذانكم عن الاستماع لنثر دنيء سقيم يتفشى هنا وهناك، في عالم فاعت فيه كل الأرواح الشريرة والمدنّسة منذ قال لأخيه لأقتلنّك فقتله؛ عالم لا فسحة فيه لإسناد الرأس على صخرة تزورها أمواج خفيفة ترفعها إلى الله، ولا نبر رعوي يزور الصحراء في زمن للرحيل، ولا خيول مطهمة في بواء الموت، لا! -تصدقون؟- لا مقصلة علنية للثوريّ يجز فيها في ساحة عامّة تتأمله الأعين والرأس ملقى ذات اليمين. عالم يقتل الثوريّ فيه تحت هدم البرميل وسديم الغاز، أو يترك ليموت على نفسه جسدًا تحت التعذيب. تصدقون؟ هذا يصيبنا هذا بالحنين إلى وحشيّة القرون الوسطى. وحشية لا تصير بسببها الجماعة وهي تشطب أصفارًا مطلقة، بل يصير الفرد وهو يحز في الساحة المطلق، الفرد الحشود، المطلق الذي يفتح الأفق لبطولة تنذر بغد لا يفضي الى مثله.

هذا الرجاء في عهدتكم، وأما الرثاء فأرجئه عمرين اثنين لَعَلَّه يجيء الزمان الصفاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.