شعار قسم مدونات

خرافة السامية

مدونات - التوارة

من رحم "التوراة" ولد في التاريخ الحديث مصطلح اسمه "السامية". هيمن ولا يزال يهيمن على أفكار أجيال من الدارسين والباحثين. فلم يلبث مصطلح "السامية" أن لاقى تقبلاً من المختصين بالاستشراق، فشاع استعماله على نطاق واسع، وبقي متداولاً إلى يومنا هذا بين المعنيين بتاريخ اللغات والحضارة.
أول من استعمل هذا الاصطلاح مطبوعاً، هو الباحث أوجست لودفيج شلوتسر (August Ludwig Schloester)، في مقال له عن "الكلدانيين"، في عام 1781؛ الذي أورده أيشهورن (Eichhorn).
يقول شلوتسر: "من البحر المتوسط إلى الفرات، ومن أرض الرافدين حتى بلاد العرب جنوباً سادت كما هو معروف لغة واحدة، ولهذا كان السوريون والبابليون والعبريون والعرب شعباً واحداً، وكان الفينيقيون (الحاميون) أيضاً يتكلمون هذه اللغة التي أود أن أسميها اللغة السامية". وقد تولى أيشهورن بعد ذلك هذا الاصطلاح والدفاع عنه وإن ادعاه لنفسه.

لقد قال الباحثون بأن الأقوام المتكلمة بتلك اللغات قد انحدرت جميعها من جد واحد هو "سام بن نوح" استناداً إلى قائمة الأنساب التي تذكرها "التوراة" في الإصحاح العاشر من سفر التكوين، وأطلقوا على هذا الأصل، أو الوحدة "الرس السامي" أو "الجنس السامي"، أو "الأصل السامي"، أو "السامية"، وعلى اللغات التي تكلموا بها "اللغات السامية".

لقد أسهم مفكرونا ومؤرخونا عن جهل، سواء كان جهلاً حقيقاً أم مصطنعاً، بريئاً كان أم ذا مرام، في انتشار مصطلح "السامية" لغة وحضارة وتاريخاً وآثاراً. وأصبح عندهم علماً لمجموعة من الشعوب المزعومة، وانشؤوا في جامعتنا أقساماً للغات "السامية"، والدراسات "السامية"، والحضارة "السامية"، دون أن يجشموا أنفسهم عناء النقاش أو السجال حول صحة هذا المصطلح، واخترق وعي الإنسان العادي بمفاهيم أقل ما يقال عنها أنها غير علمية.

يقول د. لطفي عبد الوهاب: أن الثابت من الملاحظة التاريخية هو أن اللغة لا تصلح أساساً لأي تحديد عنصري لسبب بسيط هو أن الفئات البشرية لها قابلية غريبة لالتقاط اللغات إذا كان ذلك يخدم أهدافاً مصلحية أو عمرانية.

وفي تقديرنا أن جوانب الضعف في مصطلح "سامي" و"ساميون" يمكن أن توجز بالنقاط الآتية:
– لماذا لم ينتسبوا لنوح بطل الطوفان مباشرة!؟ وما مصدر هذا التسلسل في النسب!؟ وهل حقاً أبتدع السيد سام لغةً تكلم بها غير لغة أبيه نوح وأخواته [أن وجدوا]!؟

– كذلك أود أن أشير أنه من الواضح أن شلوتسر، قد اعتمد العرق [أي وحدة الأصل] أساساً لتأصيل التشابه اللغوي بين الأقوام المدعوة بـ"السامية" متناسياً أن هذا السام كان له أخوان هما "يافث" و"حام"، فكيف يصح أن يقتطع "سام" من بيت أبيه ومن بين أخوته عرقياً ولغوياً!؟

وفي هذا الصدد، يقول ليوتاكسل، في كتابه "التوراة: كتاب مقدس أم جمع من الأساطير؟": وبالرغم من ذلك يتفق اللاهوتيون على أن نوحاً أعطى آسيا لـ"سام"، وأوروبا لـ"يافث"، وأفريقيا لـ"حام". فولد كنعان و"حام" الزنوج والملونين. لذلك ينبغي أن تكون ذريتهما عبيداً للأوروبيين. لكن السؤال هو: كيف أصبح أبناء نوح الثلاثة، مؤسسين لثلاثة أعراق مختلفة، وهم المولودون من أب واحد، وأم واحدة؟ ومع ذلك، علينا أن ننحني أمام إرادة يهوه وكتابه المقدس، ونعترف بأن العرق الآسيوي الأصفر، خرج من صلب "سام"، والأوروبي الأبيض من صلب "يافث"، والأفريقي الأسود من صلب "حام" وكنعان، بيد أن سؤالاً يتبادر إلى الذهن: من أين جاء الأمريكيون الحمر البشرة؟ أغلب الظن أن الروح القدس سها أن يخبر مؤلف كتاب التكوين عن ذلك! وعلينا أن نقر بأن هؤلاء لا أب لهم!

– إن إرجاع البشر في جميع أنحاء العالم إلى نفر ثلاثة من أبناء نوح شيء لا يأتلف مع المنطق والعقل والعلم، ومن الصعب بتكاثرهم على الوجة الذي يريد اليهود أن نتصوره، وهو شيء مخالف لطبائع الكائنات كما أشار إلى ذلك ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة بالقول: "ولما رأي النسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها وشعارها حسبوا ذلك لأجل الأنساب فجعلوا أهل الجنوب كلهم السودان من ولد "حام"، وارتابوا في ألوانهم فتكلفوا نقل تلك الحكاية الواهية وجعلوا أهل الشمال كلهم أو أكثرهم من ولد "يافث" وأكثر الأمم المعتدلة وأهل الوسط… من ولد "سام"، وهذا الزعم… ليس بمقياس مطرد.. فتعميم القول في أهل جهة معينٍة من جنوبٍ أو شمالٍ بأنهم من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لونٍ أو سمةٍ وُجدت لذلك الأب إنما هو من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات … ".

undefined

لقد فاجأنا أحد نبلاء الضمير في الغرب البائس، وهو المفكر الفرنسي المعروف بيير روسي، في كتابه "التاريخ الحقيقي للعرب ــ مدينة إيزيس"، حين قرر الانتقاض والتقريع. تقريع من كتب الكذب في جامعات أوروبا ومن صدق ذلك في جامعاتنا، قائلاً: "وهل هناك ضرورة لإضافة أن تعبير "سامي" لم يرد له ذكر بين مفردات اللغة الإغريقية، أو في اللغة اللاتينية؟ وما يقال في هذا المجال طويل. إننا لن نجد هذا التعبير قبل نهاية القرن الثامن عشر، ذلك أن العالم أ. ل. شلوتسر هو الذي صاغ هذا النعت "السامي" في مؤلف نشره عام 1781، وأعطاه العنوان التالي "فهرس الأدب التوراتي والشرقي"، كأن الأدب "التوراتي" ليس شرقياً. إن هذا التقسيم الذي حدده أ. ل. شلوتسر يجب إن يدعونا إلى الحذر.

وإنه لمن المؤكد وبشكل حاسم أن التسليم بتقسيم الشعوب إلى شرقية وغربية هو مفتاح تاريخنا وأنه مع هذا التقسيم الجغرافي يتطابق حدان مزدوجان عنصريان وهما الهنود الأوربيون [أو من يسمون أحياناً بالآريين] والساميون. إن جميع العقول الجيدة قد انحنت أمام هذا الأختراع المتولد عن خيال اللغويين الألمان. وإن المؤرخين سيعجبون للانتصار المناقض لما هو متعارف عليه، لهذا التصديق السريع، وللمطابقة في عصر، هو عصرنا الذي يؤكد كونه مرتاباً وعقلانياً ورافضاً. والواقع أنه انطلاقاً من الوثائق والمصادر والمواد التي كانت تحت تصرف العالم، يبدو أنه من المستحيل البرهان على وجود شعوب "سامية" و"آرية"، وبالأحرى إعطاء الحدود والفروق الخاصة بينها، كما أنه يبدو كذلك خاطئاً في منطلقاته مثلما هو خاطئ في عرضه ووقائعه، هذا المذهب الذي يجد الشرق والغرب بموجبه تعريفاً لكل منهما وتفريقاً لأحدهما عن الآخر حسب هذا التقسيم إلى لغات هندية ـ أوربية وسامية.

وإنه لا يحق لنا، بحسب الحالة الراهنة لمعرفتنا، أن نقدم مثل هذه المفاهيم. إن تعبيري "سامي" و"آري" ليسا شيئاً، ولا يدلان على شيء. ولكي يكتسبا حقيقة ما، أو لكي يصلحا نقطتي انطلاق تاريخيتين، ينبغي أن يكون هذان الشعبان قد امتلكا من قبل صفتي "الآرية" و"السامية". وأنه ليس هناك إنسان ما، أو ثقافة ما، أو مجتمع ما، قد طالب بهذا الارتباط بالمصير "السامي" أو"الآري". إن هذا يجب أن يقال. ولكن عالمنا كان نظرياً إلى حد جعله يجد سعادته في الأشكال الخيالية التي وضعه فيها المفكرون. إن البعد العالمي للنظريات التي يعممونها، والتضامن (لئلا نقول التواطؤ) الذي يصل بعضهم ببعضهم الآخر، والآلة المذهبية التي تحيط بهم…. إن كل ذلك يعطي لآرائهم وأقوالهم سيطرة تفرض نفسها على الرأي وتعريه ويبدو الأمر كما كتب ايراسم "الصحيح أن الإنسان مخلوق يتأثر بالخيال أكثر مما يتأثر بالحقيقة". بيد أنه لا شيء في ميدان الحقيقة يفرض تميزاً سليماً أو مريباً بين "الآريين" و"الساميين"…".

– ليس من اليسير أن نقطع برأي في صدد تقسيم الجنس البشري كما ورد في التوراة ومدى انطباقه على الأبحاث الحديثة، ولكني أؤكد أنه غير حرى بالدراسة الجدية. ومن جهة أخرى فإن التأصيل العرقي الذي قدمه شلوتسر، يصطدم بعقبتين رئيسيتين سبقنا إلى تشخيصهما د. لطفي عبد الوهاب، في معرض حديثه عن "الساميين" أو الشعوب "السامية"، في كتابه "تاريخ العرب": فيقول: الحديث عن الشعوب "السامية" كمجموعة بشرية تنتمي إلى جنس أو عنصر واحد له ملامحه وخصائصه الجسمية الخاصة به والمميزة له هو حديث لا يستند إلى أساس علمي لسببين: أحدهما يتصل بقضية النقاء العنصري والآخر يتصل بالعلاقة بين العنصر واللغة.

بات الموقف المعادي للحلم والوهم الصهيوني أو الممارسات ضد العرب، ينعت باللاسامية، حتى تحولت سيفاً مسلطاً فوق رقاب الكتاب والصحف والحكومات وإخضاعها لما تريده الصهيونية.
بات الموقف المعادي للحلم والوهم الصهيوني أو الممارسات ضد العرب، ينعت باللاسامية، حتى تحولت سيفاً مسلطاً فوق رقاب الكتاب والصحف والحكومات وإخضاعها لما تريده الصهيونية.

وفيما يخص السبب الأول فإن تطابق الملامح والخصائص الجسمانية بين الشعوب "السامية" أمر غير قائم، فنحن نجد تبايناً واضحاً في هذا المجال بين هذه الشعوب من جهة ثم من داخل كلّ شعب منها من جهة أخرى….. وفي الواقع فإن علماء الأجناس قد انتهوا منذ أواسط القرن الحالي إلى أن الحديث عن نقاء الأجناس البشرية قد أصبح في حقيقة الأمر "خرافة علمية" حسب تعبير أحد علماء الانثربروبولوجية المعاصرين..

أما عن اتخاذ اللغة أساساً لوحدة الجنس أو العنصر، فيقول د. لطفي عبد الوهاب: أن الثابت من الملاحظة التاريخية هو أن اللغة لا تصلح أساساً لأي تحديد عنصري لسبب بسيط هو أن الفئات البشرية لها قابلية غريبة لالتقاط اللغات إذا كان ذلك يخدم أهدافاً مصلحية أو عمرانية. ويذهب المؤرخ د. فيليب حتى وآخرون، في كتابه "تاريخ العرب": إلى "أن التفسير التقليدي والمألوف الذي يذهب إلى أن "الساميين" قد انحدروا من أكبر أبناء نوح "سام" لا تؤيده الأبحاث العلمية الحديثة".

– وبصرف النظر عن الجانب العرقي والمشكلات الأنثروبولوجية فإن الحديث عن أصل مشترك للساميين على النحو الذي جاء في التوراة لا يقوم على أساس تاريخي. فقائمة النسب التوراتية لا تتفق مع الحقائق التاريخية المعروفة. فيذكر العلاّمة الألماني نولدكهة (Noeldke) في كتابه "اللغات السامية": تدرج التوراة شعوباً في قائمة "الساميين" كالعلاميين والليديين رغم اختلافهما وتقصى شعوباً كالكنعانيين رغم توافقهم. وقد أرجع العالم بروكلمان (Brochelman) سبب إقصاء الكنعانيين إلى عداء كتاب التوراة للكنعانيين.

– أليس من الغباء قبول نظرية الأعراق التوراتية؟ أليس من السخرية أن ندرس في جامعاتنا أننا من صلب رجل أسطوري هو "سام"؟ انطلاقاً من وثائق لا وجود لها، أو مشكوك فيها، أو لا معنى لها؟!

نحن إذن أمام خطأ شائع يتمثل في استخدام مصطلح "السامية"، وما يشتق منه مثل "الساميين" و"معاداة السامية" حيث بات الموقف المعادي للحلم والوهم الصهيوني أو الممارسات ضد العرب، ينعت باللاسامية، حتى تحولت سيفاً مسلطاً فوق رقاب الكتاب والصحف والحكومات وإخضاعها لما تريده الصهيونية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.