شعار قسم مدونات

في الحب.. لكل معنى ضد

blogs الحب

كيف للحب أن يملك تلكَ القدرة على العبثِ فينا؟ من أين يستمد جبروته الطاغي هذا؟ ويبدأ ينخرُ في هيبةِ الروح التي نملكها، كيف يستطيع تجريدنا منّا بكل بساطةٍ وهدوءٍ؟ يجلسُ عند شرفةِ الشعورِ مسامرًا هواءَ الوقتِ ويرقب حالنا وضوضاء قلوبنا، ضجيجَ العبث فينا، يغرقنا بنا، ويبعدنا عنا، كيف يستطيع أنْ يجعلنا لسنا نحن في همسةِ أو كلمةٍ أو عبثٍ جنوني خفيف؟ هو السطوةُ المطلقةُ على كل جوارحنا، وندبةُ الضعفِ التي تعلو جبينَ شموخنا، لا مفرَ من مصيدته ولا حلولَ أمامَ قراراته وحكمه.

"أنا طفلكِ وسيدكِ، وبكل كلي أنا ملكٌ لكِ" هكذا كتبَ لها بالرسالةِ الأولى، وهو سيدُ السادةِ وأعقلُ العقلاءِ بين ذويه، وكتبَ أخرٌ "هل تحيى الأرض دون مائها؟ أنا أرضٌ عطشى لغيثكِ يا جليلة".

يبدو الحالُ أعسرًا، يبدو مشوهًا، ولكنْ لو أمعنّا في العمقِ نرى أنَّ الحقيقةَ هكذا، لكلِ معنىَ ضدٌ له، ضدٌ يوجد في صلبهِ وجوهرهِ، فنحنُ في أقصى قوتنا نحملُ من الضعفِ ما يليق بنا وبإنسانيتنا، ومهما باعدتْ السنونُ مسيرها في أعمارها سنبقى في حيّزنا الخاص نحمل الطفل الذي كنا عليه، الحبَّ هو التضادُ، وهو المعنى في أوج وضوحهِ، هو العبثُ الجميلُ في أبجديات سيفمونياتنا وشخوصنا، وهو اللاتوقع للحال كله، نحنُ نكتمل بهذا الشكلِ الأعمقِ للحبِّ، ونصبحُ أكثرَ وضوحًا به، وأكثر قربًا من إنسانيتنا وعفويةِ أرواحنا، الحبُّ هو الضرورة الأولى للروحِ، وهو الشكلُ الأبسطُ للإنسانيةِ التي نحنُ عليها.

بالحبِّ تهوى النفسُ أن تقارب ضدها، وأنْ تنبشَ النقيضَ بعمقها، ليكونَ ظاهرًا واضحًا كأنه المعنى كله، أو الصيغة الحاضرة البينة

والتفسيرات المنطقية لكل هذا الوجوبِ وهذه الصورة يكتسيها العدم، فلا يمكن أبدًا ربطُ الأفعالِ المتعلقةِ بالحبِّ أو ردود الأفعال المتعلقة به بعقلانية واضحة ومنضبطة، لارتباط هذا المفهوم العميق بجوهر الشعور مباشرةً، وبمعنى أخر علاقة هذا المفهوم تعود بشكل مباشر لخطوط الارتباط مع الروحِ -التي نجهل علومها وعوالمها-، وهذا يمنحني راحًة في تفسير المجهول، ويجبرني أنْ أرسمَ من خيالات الجمالِ ما لا تستطيعه عقلانيتي، لهذا عندَ العتبةِ الأولى للحب يصمتُ العقلُ وتبدأ أهازيجُ الجنونِ بالحضور، تغلي بالصعود لتشكل غمرةً تحيط بالمحب، وتحاكم تصرفاته وتوازي لا منطقية الهوى لديه.

في الحبِّ تهوى النفسُ أن تقارب ضدها، وأنْ تنبشَ النقيضَ في عمقها، ليكونَ ظاهرًا واضحًا كأنه المعنى كله، أو الصيغة الحاضرة البينة، فتنقلب الأدوارُ وتصبحُ الصفاتُ الظاهرةُ ضدًا متواريًا في الأعماقِ، وهذا سرٌ من أسرارِ العشقِ، بصورةٍ أخرى يمكنني القول أنَّ التفاصيلَ غير المرتقبةِ أو الملاحظةِ ستصبحُ هي السيدةُ على باقي التفاصيلِ والأحداثِ الشعوريةِ والمنطقيةِ أيضًا للإنسان.

وأصحح هنا: ليس الأمرُ كما بدا أنه أعسرٌ مشوهٌ، هو فقط يحتاج إلى قدرةٍ أكبر -وفي كل مرة- لفهمِ وتفسيرِ ظواهرِ الحبِّ تلك، مع القول -تأكيدًا- أننا قد نكون عاجزين عن احتواء الحبِّ بجلِّ مفاهيمه وجوانبه، لا لنقصٍ في قدرتنا الإنسانية على ذلك، بل يعللُ هذا العجز الناجم عن تقصيرنا في بذلِ الجهدِ اللازمِ للتسلح بالوعي المجزي والمثمر في سعينا نحو فهم هذه النعمةِ المهداةِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.