يتساءل المرء كيف تُقترف الفظاعات في شعب قيل فيه "الإيمان يماني والحكمة يمانية" فالحكيم لا يقتل أخاه ولا يبطش به هذا هو منطق الحكمة، غير أنّ منطق السياسة على النقيض من ذلك، والفتنة هي الحالقة، والطيران السعودي المحلّق في سماء صنعاء لا يذر حكيما حيّا والدبابة الإماراتية في حضرموت تجعل جسد اللبيب رميما والمدفع الإيراني في صعدة يرمي حمم الحقد المذهبي متّقدة لتستعر نار الطائفية أكثر، واللعبة في النهاية لعبة ملوك وساسة لا يهمّهم دين ولا مذهب بقدر ما تهمّهم مصلحة الشيطان الأكبر، ويا ليته كان ذاك الشيطان الذي حدثنا عنه أحد الشياطين، فلشّيطان مَرَدة وللمجرم بنين وحفدة في طهران وفي الرياض وفي أبو ظبي والقاهرة، عفريت يدّعي دفاعا عن السنّة وشيطان عن الشيعة وإبليس عن الشرعية الشعبية ومارد عن الوحدة الترابية للبلد وليتهم صدقوا، وتعدّدت الشياطين وكوليرا التدمير الممنهج ليمن الحضارة واحدة، والسواد من النّاس بين تلكم الشياطين قد تفرّقت أهواؤهم وتشتّت آراؤهم فغدوا بأيدي المجرمين معاول هدم يخربون بيوتهم بأيديهم عالمين أو جاهلين.
الحضارات العظيمة لا تندثر، وسينبت على ضفاف مأرب أقحوان ويزهر، رغم أنف صالح والحوثي وسلمان وكلّ الذاهبين، ولا بدّ من صنعاء وإن طال السفر. |
يقول نابليون إنّ سياسة الدولة في جغرافيتها ويقول الواقع إنّ مأساة اليمن في جغرافيتها كذلك، فهذا البلد في فقه الاستراتيجيين رقعة تحتوي كلّ مقوّمات القوّة والنهوض، بل إنّه ليس من المغالاة أن يقال إنّها قوّة كامنة يُخشى نهوضها، فاليمن يتربّع على موقع مطلّ على ثلاث مسطّحات مائية وعلى مضيق بحري حيوي ومساحة لا بأس بها وقلّما يتوفّر ذلك في بلد واحد، فمضيق باب المندب وحده منفذ تتقاتل على مثله كل الدول التي تروم الهيمنة على الاقتصاد العالمي، وجزيرة مثل سوقطرى فقط يمكنها أن تصبح وجهة سياحية تنافس جزيرة بالي الأندونيسية أمّا مدينة مثل عدن فلو كانت بين يدي حكومة تملك قليلا من الفطنة لضيّعت في حضورها باقي الحواضر لكنّها الإرادات المتناكفة والولاءات الضيقة تفعل فعلها.
مصيبة اليمن مصيبتان، واحدة في موقعه الذي اختارته الجغرافيا، والثانية في أنظمة جيرانه، فلا دولة في الشرق الأوسط تريد يمنا قويّا، لا المملكة السعودية ولا باقي دول الخليج ولا إيران وحتّى مصر، إذ إنّ وجود يمن قويّ يعني -حسب مفهوم تلك الأنظمة- تهديدا وجوديا للممالك النفطية خاصة في الرياض، ويقزّم دور العواصم المجهرية التي أخذت على عاتقها مهامّ تنفيذ مشاريع التقسيم في المنطقة لاسيما أبو ظبي، ويبرز منافسا جدّيا لطهران والقاهرة، لذا يظلّ اليمن رهينة التناحر والقبلية كما يبتغيه الجيران الذين وإن تشاكسوا وتنافروا فإنّهم متّفقون على إبقاء اليمن شعبا بلا دولة، فاليمن المرغوب هو يمن العصبية القبلية لا الدولة الوطنية، يمن اليد العاملة التي تنافس البنغال والفليبيين لا يمن الصناعة والتطوّر، اليمن المبتغى هو يمن يتّكئ رئيسه على ملك سعودي ويستند معارضه على مرشد فارسي وتستعين ميليشياته بمال خليجي، يمن التبعية والقبلية والتخلّف والتمزّق لا غير.
لذا فإنّ كوليرا السياسة في اليمن التعيس ستظلّ تتّسع ما دام الشأن هكذا حتّى لو قُضي على مرض الكوليرا، وحدهم اليمنيون يبنون يمنهم رغم أنوف الأعداء من الأقارب والغرباء وهم فقط من يجب أن يقولوا لملوك آخر زمن "إنكم تستطيعون إبادة ملايين اليمنيين لكنّكم لن تستطيعوا إبادة قرون من الحضارة أيّها المجرمون الأحداث".
يطول الألم في أعرق حواضر العرب ومعه تخلد أرجوزة عبد الله البردوني:
يمانيون في المنفى
ومنفيون في اليمنِ
شماليون في صنعا
جنوبيون في عدنِ
إقليمية وفدرلة وحراك وتحويث وتلويث لأرض لم تعد تنجب بلقيسا ولا ابن ذي يزن، لكنّ مآلها النهاية لأنّ الحضارات العظيمة لا تندثر، وسينبت على ضفاف مأرب أقحوان ويزهر، رغم أنف صالح والحوثي وسلمان وكلّ الذاهبين، ولا بدّ من صنعاء وإن طال السفر.