تشهد العديد من المناطق على امتداد القارات الخمس قيام تكتلات اقتصادية وسياسية باعتبارها كبنيات متكاملة تمليها الحاجة إلى مواجهة تحديات العولمة وما يتمخض عنها من تنافسية شديدة من جهة، أو بهدف تحصيل أكبر قدر ممكن من المنافع الاقتصادية لشعوبها وضمانا للتدفق السلس للسلع والخدمات وانسيابية اليد العاملة والمواد الخام ورؤوس الأموال من جهة أخرى، أو بهدف تحقيق التكامل الاقتصادي وفق منطق "رابح رابح" كما هو واقع مجموعات إقليمية كبرى كـ "الأسيان" أو "النافتا" أو "الإبيك" وغيرها من التكتلات.
كل ذلك يأتي بهدف الوصول إلى أعلى درجات التنسيق السياسي وتحسين فرص الدفاع عن مصالح الدول المشكلة لتلك المجموعات كما هو واقع الاتحاد الأوروبي، الذي يعتبر في حد ذاته أنموذجا فريدا يمكن الاحتذاء به على الرغم من الصعوبات التي شابت نشأته ولازالت سيما بعد "البريكسيت"، والذي جاء كتتويج لنضج وبعد نظر مؤسسيه، وفي نفس الوقت كثمرة لجهود مضنية من العمل المشترك والرؤية الاستراتيجية، وبعد مخاض عسير من التشردم والصراعات العسكرية التي انخرطت فيها معظم دوله كالحربين العالميتين الأولى والثانية التي انتهت في آخر المطاف إلى تقسيم أوروبا وإضعاف دول وازنة فيها، وأملته أيضا الحاجة إلى إعادة بناء القارة الأوروبية وفق قواعد جديدة بما يضمن المكانة اللائقة بها في العالم.
وبالعود إلى الدول المغاربية التي تملك هي الأخرى من مقومات التكامل والاندماج الاقتصادي الشيء الكثير، ليس فقط باعتبارها كبنية ثقافية وأنثروبولوجية واحدة، الشيء الذي يمكن أن يعتبر عاملا مسهلا لقيام أي تكتل حقيقي بخلاف مجموعات اقتصادية أخرى حيث التباينات الثقافية بادية، ولكن أيضا باعتبارها كسوق تجاري يفوق تعداده تسعون مليون مستهلك وما تزخر به بلدان المنطقة من إمكانيات اقتصادية وموارد هائلة كالطاقة أو الثروات السمكية والفلاحية أو المؤهلات السياحية واليد العاملة المؤهلة وقربها من أسواق عالمية كأوروبا وأفريقيا، وهي كلها عوامل مساعدة يمكن أن تضع المنطقة المغاربية في مصاف الدول الواعدة اقتصاديا .
لكن واقع الحال يشير إلى أن هذه المقومات لا يتم استغلالها على النحو الأمثل كما لم تتم الاستفادة من تجارب نماذج مشابهة عبر العالم، وأن الطريق تجاه قيام تكتل مغاربي وإحياء روح اتحاد المغرب العربي لا يزال بعيدا، حيث لا تزال التجارة البينية هي الأدنى من نوعها في العالم إذ لا تزيد عن 3 بالمائة من حجم التبادل التجاري بحسب خبراء اقتصاديين، بينما تصل هذه النسبة إلى 25 بالمائة في دول جنوب شرق آسيا على سبيل المثال، بل ويزداد الأمر تعقيدا وصعوبة يوما بعد يوم، ليس فقط بسبب اختلاف الأولويات ووجهات النظر وعدم توفر الإرادة السياسية وغلق الحدود البرية ووضع الحواجز الجمركية.. وغيرها من العقبات بين مختلف الدول ولاسيما بين دول وازنة في الإقليم كالمغرب والجزائر، بل وكذلك بما أصبح يلف المنطقة من متغيرات وعدم استقرار سياسي صاحبت ما عرف بالربيع العربي كما هو الوضع في ليبيا أو الواقع التونسي ناهيك عن المخاطر الأمنية التي أصبحت تحدق بالمنطقة، وهي كلها عوامل يجب أن تكون حافزا إضافيا إلى جانب رغبة شعوب المنطقة في التفكير الجدي في تفعيل منطق التكامل والتنسيق المشترك بغية مواجهتها وعدم الاستسلام لمخاطرها.
مما لا شك فيه أن عدم المضي قدما في اتجاه تفعيل فكرة الاندماج المغاربي وتدليل العقبات أمامها قدد كبد شعوب المنطقة خسائر تقدر بالمليارات من الدولارات، كما حرم اقتصاديات المنطقة من فرص تأهيلها ورفع فعاليتها وتحسين شروط تنافسيتها في وجه شركاء تجاريين كبار فضلا عن القدرة على الحد من تبعيتها لاقتصاديات دول أوروبية، الشيء الذي أرغم على ما يبدو دولا مغاربية إلى توقيع اتفاقيات للتبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي بشكل منفرد، مما زاد بدوره من تعميق العجز في الميزان التجاري لصالح هذا الأخير بالنظر لتنافسية المنتجات الأوروبية، أو الدفع باتجاه توقيع اتفاقيات للشراكة التجارية أو الشراكة المتقدمة مع الاتحاد الأوروبي كما هو حال المغرب.
هذا الواقع المغاربي المعقد دفع على الأرجح دولا كالمغرب إلى التركيز على المقاربة الإفريقية في سياسته الاقتصادية الخارجية في إطار ما يعرف بالتعاون "جنوب-جنوب"، في أفق الاستفادة من الفرص والإمكانيات المتاحة للتعاون المشترك والحاجة المتبادلة التي يوفرها الفضاء الإفريقي، وقد ترجم ذلك عمليا بالحضور الاقتصادي المغربي القوي في المجال الإفريقي، عبر استثمارات كبيرة في قطاعات حيوية كالبنوك والطاقة والبنى التحتية والعمل على تقوية ذلك التعاون ومأسسته عبر تقديمه لطلب الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا المعروفة اختصارا بـ "سيدياو" واتجاه قادة هذه المنظمة إلى القبول المبدئي لهذه العضوية.
إلا أنه وعلى الرغم من الاتجاه صوب البديل الأفريقي أو الأوروبي فيما يخص الشراكة في أبعادها الاقتصادية أو السياسية أو غيرها من المجالات، فسيظل دونما أدنى شك "الاندماج المغاربي" حلما مشروعا يراود شعوب المنطقة ومطلبا حتميا ينبغي النظر إليه ببراغماتية وبرؤية استراتيجية بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة أو الاختلافات الإيديولوجية، بالنظر إلى المنافع الكبيرة التي سيعود بها هذا التكتل المنتظر على الجميع دونما استثناء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.