شعار قسم مدونات

الإسلاميون.. بين منهج السلامة وسلامة المنهج

blogs شيوخ الدين
ساق لنا القرآن الكريم نماذج عظيمة لأناس عظام وقفوا يواجهون أئمة الكفر دون أن يرعبهم شيء، أناسٌ لم تقدهم مصالحهم ولا أهواؤهم ولا عصبيتهم القبليّة أو الحزبية.. إنما قادتهم المبادئ، فكانوا أئمة يهدون بأمر الله لمّا ظلم الطغاة وبغوا وعلوا في الأرض بغير الحق، بمثل هؤلاء حُقّ التأسي والاقتداء، وما أحوج الجماعات الإسلامية اليوم أن تتبع هدى هؤلاء إن أرادت لذاتها عزًا ورفعة في الدنيا والآخرة..
المشهد الأول:
تتخيّلون رجلًا بحجم النمرود، ببطشه وجبروته، يُخضع الناس له، ويقنعهم أنه إله العالمين الذي يحيي ويميت، بهذا الاستخفاف والاستهبال حكم النمرود هؤلاء : "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ"، في ظل هذه الموجة العارمة من الانبطاح الجماهيري، وقف سيدنا إبراهيم ليكون أمة وسط جمع المتخاذلين هؤلاء "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً"، وقف بقوة الإيمان المندفعة من صدره ككتلة ملتهبة ليقذف النمرود بعبارات صاعقة : "قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ" من يملك موتنا وحياتنا، من ينبغي أن تنحني له جباهنا هو الله لا أنت أيها النمرود!! فأجابه بسذاجة ليس لها مثيل "أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ" وأحضر رجلين قد حكم عليهما بالإعدام، قتل واحدًا وأخلى سبيل الآخر! تتخيلون حجم السفه! في هذا الموقف كان على سيدنا إبراهيم أن ينهي حماقة هذا الرجل بردٍ يقضّ مضجعه ويُخرسه.. "قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ" فأُسقطت بين يديه وفي حجره ولم يستطع الرد "فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ".. سيدنا إبراهيم وقف وحيدًا وهو يعلم تمام العلم أنه قد لا يعود لبيته إلا محمولًا على الأكتاف! لكنه ثبت وواجه ولم يلوِ على شيء، لأن المبدأ والعقيدة التي يحملها تتأبّى الجبناء، وفي نفس الوقت تدفع صاحبها من أجل أن يقول الحق لا يخشى إلّا الله ..

المشهد الثاني:
يعود سيّدنا إبراهيم "الأمة" مرة أُخرى، لكن هذه المرة لمواجهة قومه وأهله، حطم أصنامهم إلا كبيرًا لهم، علّق على عنقه سيفًا، ثم مضى لحين أن جاء قومه يُهرعون، "قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ"، أتوا به.. "أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ"، فاختصر عليهم الطريق و(قصف جبهتهم) "قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونْ"، وتسقط من جديد بين أيديهم، وكعادة الجبابرة وفاقدي الحجة، حين يفقدون القدرة على مواجهة الفكر بالفكر سرعان ما يلجأون للتشبيح والبلطجة والعربدة "قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ"، يُجمع الحطب وتُوقد نار عظيمة، ثم يُؤتى بإبراهيم ليُلقى فيها، فهل أثناه ذلك عن الحق الذي كان عليه! أبدًا، ولا قيد أُنملة، ويُرمى في النّار، ثم تأتي الرعاية الإلهية من الله الذي لا يترك الناس في منتصف الطريق لا لطاقاتهم المحدودة ولا لقواهم الضعيفة، بل يمدهم بالزاد إذا فقدوا زادهم "يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمْ"، ولما سُئل سيدنا إبراهيم عن أجمل أيام حياته قال: هي التي قضيتها في النار، ذلك لأنه كان يعيش اتصالًا مباشرًا مع الله ..

الجماهير ما عادت جاهلة ولا غبية، وتُرينا الأمة كيف أنها لفظت حركات وعلماء ومشايخ وإعلامًا، وما كل محاولات ترقيع التنازل تحت مسميات الشراكة السياسية والالتقاء مع الآخر، إلا مسميات فارغة من مضمونها.

المشهد الثالث:
"فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ"، قالها فرعون لقومه الذين استخفهم كذلك، لم يجد أحدًا يعترض طريقه إلا سيّدنا موسى عليه السلام، وحددوا ميقاتًا للمواجهة "مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى" اجتمع النّاس، وجاء فرعون ومعه السحرة وكل الملأ من حوله ليواجهوا موسى وحده.. "قَالَ لَهُمْ مُوسَىٰ أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ"، اشتدت الأجواء ودبّ الخوف أوصال سيّدنا موسى عليه السلام وكان لا بد من سكين إلهية تقطع دابر القوم الذين ظلموا، وكان لا بد لرعاية الله أن تلقف سيدنا موسى وتغمره بالطمأنينة، فجاءه الوحي من الله "قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَىٰ" ثم ماذا ؟! ثم "َأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ" فانهار ملك فرعون وقُيضت أركانه، وفي هذه اللحظات يسوق الله الناس للحق ليؤمنوا به لمّا يرون ثبات أصحاب المبادئ، "فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ"، هؤلاء السحرة الذين لم يلبثوا في إيمانهم ساعة، لكنهم ثبتوا ولم يتخلخل الإيمان في نفوسهم فماتوا مطمئنين أن الذي أخذ الروح ويعطي الروح هو الله ..

المشهد الرابع:
اربطني بجذع الشجرة، ثم أخرج من كنانتك سهمًا واقذفني به وأنت تقول: بسم الله ربّ الغلام، صعدت الروح بشموخ إلى الله لم تغير ولم تبدل، ومرة أخرى يسوق الله الناس للحق "آمنا بربّ الغلام"، فلجأ الطواغيت لمنطقهم الأرعن، منطق التشبيح والإرهاب، حفروا الأخاديد وأشعلوا النيران وهمّوا بإلقاء الناس فيها، ولما أن كادت تتراجع امرأة خشية على وليدها، أنطقه الله "اثبتي يا أماه فإنك على الحق" ..

المشهد الخامس: 
في ظل الحرب الشعواء التي أوقدت قريش نارها على رسول الله ومن معه، وفي منطق الحرب التي قد تُبنى على الخديعة أكثر ما تُبنى على الصراع المباشر، عرضت قريش إغراءاتها ظانة أن لعاب المسلمين سيسيل لها، ولما أن هم النبي ليفاوضهم كان التثبيت من الله "وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا .."، ثبّت الله نبيه وحفظه من مكر أعدائه، فمجرد الانحراف الطفيف في مقدمة الطريق تؤدي للانحراف التام في نهايته..

والآن وبعد عرض هذه المشاهد لم يبقَ هنالك من حجة لمن يقدمون التنازلات أو لأولئك الذين يريدون أن يخرجوا من الدنيا "بكلنسة" بلا أي خدوش أو أذى.. الذين يجملون صورة الأنظمة و يعطون للغرب شهادات حسن سير وسلوك تحت مسمى "اللعبة السياسية" أو "خذ وطالب" .. إلخ، فذلك لن يُرضي الغرب عنهم ولن يجمل صورتهم أمام الأنظمة ولن يرحمهم أمام التاريخ والناس، فالجماهير ما عادت جاهلة ولا غبية، وفي كل المنعطفات التي نمر بها تُرينا الأمة كيف أنها لفظت حركات وعلماء ومشايخ وإعلامًا..، وما كل محاولات ترقيع التنازل تحت مسميات "الشراكة السياسية" و"الالتقاء مع الآخر" إلا أوهام ومسميات فارغة من مضمونها.. ليس لها اعتبار أمام النماذج المشرفة التي قدمها لنا التاريخ، أولئك الذين نطرب لسماع سيرهم ومواقفهم، وما ينقصنا حتى نكون مثلهم سوى أن نكون أصحاب مبادئ حتى يكون الله معنا ويسوق الناس ليكونوا معنا، أصحاب المبادئ تكشفهم المنعطفات القاسية التي تمر بها الأمة، ففي الشدائد الكثرة يريدون منهج السلامة، والقلة يريدون سلامة المنهج!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.