شعار قسم مدونات

ولو كنتم في سفارة محصنة

blogs - نتنياهو
عندما يتخذ البعد الجنائي بعدا أوسع سياسيا تحظى "الجريمة" بالغطاء المناسب أو العقاب غير المناسب! فعليا كان ميثاق فيينا 1961م قد منح "الحصانة" للدبلوماسيين العاملين في السفارات بغض النظر عن أن ذلك قد ساهم في استغلال الدول لسفاراتها كمواقع للتجسس على الدول المضيفة واستغلال دبلوماسييها لحصانتهم من التفتيش والمراقبة في تهريب الذهب والأموال وغير ذلك من التجاوزات التجارية والسياسية. 

ما لا يعرفه كثير من عامة الناس أنه وفقا لذات الميثاق والأسس الدبلوماسية المعمول بها، فإن مساحة الأرض التي تقام عليها سفارة دولة ما هي ملك لتلك الدولة وتخضع لسيادتها وقوانينها، وليست ملكا للدولة المضيفة؛ فالأرض الأردنية التي أنشئت عليها سفارة ألمانيا الاتحادية مثلا هي ملك لألمانيا وتخضع لقوانينها وسيادتها، والأرض الألمانية التي أنشئت عليها سفارة المملكة الأردنية مملوكة للأردن وبالمثل تخضع لسيادتها وقوانينها، وعليه ربما على الناس أن يعرفوا أن الأرض الأردنية التي أنشئت عليها سفارة دولة "إسرائيل" مملوكة لـ"إسرائيل" وتخضع لقوانينها وسيادتها، وبناء على ذلك يمكن الفهم أن حارس الأمن "الإسرائيلي" القاتل عندما تحصن بسفارة دولته بعد ارتكابه لجريمته كان تحت السيادة "الإسرائيلية" وفي ظل قوانينها، أي أنه قد أصبح في ظل دولته بمجرد تحصنه بالسفارة، وأنه من ناحية قانونية وفق الحصانة التي تمنحها له المادة 31 من ميثاق فيينا لا يستطيع الأمن الأردني فعل أي شيء تجاهه باستثناء إعلانه شخصا غير مرغوب فيه وترحيله إلى دولته. تماما مثلما لم تتمكن الشرطة السريلانكية من فعل أي شيء تجاه السفير البورمي عندما قتل زوجته وأحرقها عام 67 باستثناء ترحيله إلى بورما (مينمار) حيث تمت محاكمته في دولته.

القاتل لن يعاقب في الأردن بحكم الحصانة الدبلوماسية المكفولة له بالقانون الدولي ولن يعاقب في
القاتل لن يعاقب في الأردن بحكم الحصانة الدبلوماسية المكفولة له بالقانون الدولي ولن يعاقب في "إسرائيل" لأنه لم يسبق أن عاقبت "إسرائيل" "إسرائيليا" لأنه قتل فلسطينيا أو عربيا، وليست دولته بالتي تهتم بحياة أي عربي.

في حوادث مشابهة ارتكب فيها دبلوماسيو السفارات حوادث جنائية في الدولة المضيفة كان التصرف الذي يمكن أن يصدر عن الدولة المضيفة هو إعلان مرتكب الجريمة كـ" شخص غير مرغوب فيه" وترحيله إلى دولته ومطالبتها بمحاسبته، ويمكن أيضا أن تقوم بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الجاني والمطالبة بتعويضات للمجني عليهم في الحادثة، مثلما حدث في قضية مقتل شرطية بريطانية في حادث إطلاق نار من السفارة الليبية في لندن أثناء مظاهرة معارضة للنظام الليبي أمام السفارة الليبية عام 84؛ حيث أعلنت بريطانيا  الدبلوماسيين الليبيين كأشخاص غير مرغوب فيهم وقامت بترحيلهم جميعا إلى ليبيا وأعلنت قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين حتى عام 99 عندما اعترفت ليبيا بمسؤوليتها عن الحادثة ودفعت تعويضات لأسرة الشرطية القتيلة.

القضية ليست قضية الجواودة والحمارنة فقط، تتسع القضية لتشمل قانونا دوليا يساعد الدبلوماسيين على النفاذ من العقاب بمنحهم الحصانة التي تسهل لهم ارتكاب الجرائم.

أما بالنسبة لدولة الجاني فيمكنها رفع الحصانة الدبلوماسية عن الدبلوماسي القاتل لتتمكن الدولة المضيفة التي ارتكب فيها جريمته من محاسبته ومعاقبته مثلما قامت جورجيا عام 97 برفع الحصانة الدبلوماسية عن قنصلها لدى الولايات المتحدة بعد ارتكابه جريمة قتل بدهس فتى وهو في حالة سكر، حيث قامت الولايات المتحدة بمحاكمته، كذلك يمكن لدولة الجاني الاعتذار وإدانة الجريمة ودفع تعويضات للضحايا ويمكنها محاكمته ومحاسبته بعد ترحيله إليها في حال عدم رفع الحصانة عنه.

بالنظر إلى الحالتين السابقتين، فإن الأردن لم يعلن عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع "إسرائيل" ولم تطالب بتعويضات للضحايا بخطاب واضح وصريح ومعلن إعلاميا، كذلك لم ترفع "إسرائيل" الحصانة الدبلوماسية عن القاتل بل وفرت له الحماية الكاملة التي وصلت إلى حد تهديد الأردن على لسان أعضاء في حكومة نتنياهو، ولم يخضع للمحاسبة كجان ولم تقدم دولته اعتذارا رسميا صريحا ينشر عبر وسائل الإعلام؛ بل اكتفت بالتبرير بأنها حادثة قتل بالخطأ وللدفاع عن النفس، وكعادتها لم تقدم تعويضات لأسر الضحايا، ويبدو أنها "احتفت" بالقاتل بطريقة لا تتناسب مع وضعه كقاتل مركتب لجناية وتسيء للعرف الدبلوماسي الذي يفترض أنه قاتل في طريقه إلى المحاكمة في دولته وليس "بطلا" عائدا، ما بدا كتعمد من قبل "إسرائيل" لإضعاف موقف الحكومة الأردنية أمام الأردنيين.

ونظرا لسمعة "إسرائيل" السابقة في حماية مرتكبي الجرائم من "مواطنيها" ضد الفلسطينيين على مدار عقود والأمر لا يقتصر فقط على جنودها الذين تختلق لهم الذرائع لقتل المدنيين، لكن يمتد كذلك للمستوطنين الذين يقتلون المدنيين الفلسطينيين بالرصاص أو الدهس أو الحرق ولا يخضعون للعقاب، وبصفتها دولة ارتكبت عدة مجازر ضد المدنيين الفلسطينيين والعرب مثل قصف مدرسة أطفال ابتدائية في قرية بحر البقر في محافظة الشرقية المصرية عام 70 وقصف ملجأ للمدنيين اللبنانيين عام 96 في قانا في لبنان وقتل مدنيين سوريين في عدة عمليات قصف لمنشآت سورية، وقتل مدنيين عراقيين في قصفها للمفاعل النووي العراقي في الزعفرانية في بغداد عام 81، وغير ذلك من الكثير من الجرائم والمجازر التي لا تتسع لحصرها سوى كتب التاريخ!

وفي كل تلك الجرائم وغيرها لم تعتذر "إسرائيل" أو تقدم تعويضات لأحد، هذا كله يقود الناس للاعتقاد أن حارس الأمن "الإسرائيلي" قد قتل الفتى والطبيب الأردنيين وهو يعتقد بالحصانة من العقاب كونه "إسرائيلي" بغض النظر عن الصفة الدبلوماسية. وهو ما يثير الاعتقاد لدى الناس بأن القتل متعمد لعدم وجود عقاب لأن "دولته لن تتركه" كما قال له نتنياهو!

أي أنه لن يعاقب في الأردن بحكم الحصانة الدبلوماسية المكفولة له بالقانون الدولي ولن يعاقب في "إسرائيل" لأنه لم يسبق أن عاقبت "إسرائيل" "إسرائيليا" لأنه قتل فلسطينيا أو عربيا، وليست دولته بالتي تهتم بحياة أي عربي ولا بالدولة الضعيفة التي يمكن أن تخضع لضغوط من الأردن أو التي يمكن أن تخضع لضغوط دولية – إن وجدت – لم يخضع لها سابقا في أي قضية.
 
القضية ليست قضية الجواودة والحمارنة فقط، تتسع القضية لتشمل قانونا دوليا يساعد الدبلوماسيين على النفاذ من العقاب بمنحهم الحصانة التي تسهل لهم ارتكاب الجرائم، وتقترب لتشمل "دولة احتلال" ترتكب هي وبعض "مواطنيها" جرائم قتل بحق أبرياء دون حساب أو عقاب أو تعويض أو اعتذار كأن القتل مباح لهم وأرواح ضحاياهم لا قيمة لها! وكأن العالم يقول لهذه الدولة أيها "الإسرائيليون" الجناة لن يدرككم ولن يحاسبكم أحد لأنكم في "دولة" وسفارات محصنة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.