شعار قسم مدونات

إشكالية التطرف الثقافي

blogs- read
عادة ما يُصدم بعض محبي ومتابعي كاتب مثقف في لحظة ما بها يتمرد على بعض القيم الاجتماعية والدينية التي تعارف المجتمع على قداستها، فيتحدث بلهجة تهكمية أو ناقدة بشكلٍ حاد وعارٍ عن المحدودية.
   

وعلى الطرف الآخر، يتقوقع كاتب محافظ في دائرة قيم اجتماعية ودينية يبالغ في قداستها إلى الحد الذي يرفض معه مجرد الخوض فيها أو مناقشتها، فيجانبه من كان مفعماً بروح التحرر والانفتاح والتطلع لكل صنوف المعرفة، كثيراً ما نقابل هذين النوعين من الكتّاب، فكليهما يتخندق في حفرة فكرية واحدة، يمينية كانت أو يسارية، ويحرص على إقناع الناس بمبادئها وأفكارها على الطريقة الذي يفضلها هو! على هذا يمكننا إطلاق مصطلح "التطرف الثقافي".

    

وهنا نتساءل: ما الذي يدفع المثقف أو المفكر لارتداء عمامة التطرف في فكره اليميني أو اليساري وترك عباءة الوسطية والاعتدال ؟. يعزو علماء النفس مشكلة التعصب الفكري التي تنتاب عناصر طبقة البروباغاندا إلى ما يسمى"النظرة الأحادية"، ومضمونها أن ينهمك المثقف في مطالعة كل ما يعزز ميوله الثقافي والفكري دون إفساح المجال للفكر الآخر المضاد فيخلق لديه فهماً ناقصاً وحكماً انحيازياً. فلا غرو أن تجد مثقفاً يصل به تعصبه إلى مستوى الشطط الفكري الذي يحابي معه فكرته النضالية على أنها وحدها الصواب وما عداها خطأ.

  

لا يعني نقد "التطرف الثقافي" محاولة لصد الاختلاف واستهجان التنوع الفكري، بل هو أحد نواميس الكون التي لا تستقيم الحياة إلا بها

ولذلك، نجد أن المثقف المتسم بالانفتاح الفكري، الذي يخوله لقراءة مختلف الرؤى والجدليات الفكرية، هو الشخص الأكثر اتزاناً وثباتاً من غيره الذي أطلق العنان لفكر أحادي. فالمثقف اليساري مثلاً، قد يخسر اهتمام الناس ذوي الميول المحافظة لما يعتبرونه شذوذاً عن الفطرة الاجتماعية التي جبلوا عليها، فيما يفقد المثقف اليميني اهتمام الناس أصحاب الفكر الليبرالي المتحرر تحت مبرر الانغلاق والجمود الفكري الذي يخالف منطق العقل ومنظومة التفكير. شيء آخر يدفع المثقف للانزواء الشديد في زاوية فكرية وحيدة، وهو ما يمكن تسميته بـ "الصدمة الحضارية" أو "الانبهار الحضاري"؛ ما يجعل المثقف الذي كان متطرفاً نحو اليمين أو قريباً من الوسطية على الأقل يتحول إلى اليسار المتطرف لما لاقاه من اختلاف الواقع الحضاري عند انتقاله من بلدٍ نامٍ إلى بلد متحضر متحرر وتأثره بالمتغيرات المادية والاجتماعية، وهذا حال بعض المثقفين.

    
والمتتبع لنشاط الشخصيات الإعلامية والثقافية الشهيرة يلاحظ أن أكثر الشخصيات متابعة واهتماماً هو صاحب الطرح الوسطي الذي يطرق قضايا ومواضيع اجتماعية وفكرية مجافية التعصب لمذهب ثقافي معين، ويحظى بمتابعة مختلف الشرائح الثقافية، خلافاً لصاحب الفكر الأوحد الذي تظل أفكاره ومنتوجاته حبيسة كتاب أو مدونة إلكترونية مع قليل من المهتمين المؤيدين. وإذا ما نظرنا إلى مبادئ الدين الإسلامي الحنيف فنجده هو أيضاً حث على التزام مبدأ الوسطية والاعتدال في مجال الدعوة والتأكيد على ضرورة التعايش مع الناس على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم وأعراقهم، ونعت الله تعالى أمة هذا الدين بأنها "الأمة الوسط"، ما يمكن اعتباره حرصاً على تماسك المجتمع الإسلامي وتآلف شبكاته الاجتماعية.

  
وأخيراً يمكن القول، لا يعني نقد "التطرف الثقافي" محاولة لصد الاختلاف واستهجان التنوع الفكري، بل هو أحد نواميس الكون التي لا تستقيم الحياة إلا بها، ولكن بالشكل الذي لا يتسبب في تصدع المجتمع وانفلاته وتفكك عراه الثقافية، كما هو الحال عليه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية للأسف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.