شعار قسم مدونات

أفريقيا وحلم الهجرة

blogs - قارب مهاجرين غير شرعيين في البحر الأبيض المتوسط
عصرنا الحاضر لا مثيل له عبر التاريخ، إذ لم تشهد الأرض منذ بداية إعمارها نموا وتكاثر سكانيا كالذي نعايشه منذ بداية القرن العشرين، حيث رسمت التكتلات العرقية، الدينية ثم الحروب المتتالية، حدودا ميدانية جغرافية كرست الملكية، الاقطاعية وخاصية المكان، ثم جنست البشر حسب انتمائهم إلى الدولة المقررة في الإقليم والواقعة تحت سلطة حكومة تحفظ الصالح العام لسكان الإقليم المعين أو على الأقل مصالح الحاكم العام لسكان ذلك الإقليم، ومن أهم المهام الموكلة للحكومة الحفاظ على تجانس سكان الإقليم والحد من نزوح أو لجوء سكان أقاليم أخرى إلى الدولة المحمية. 

اكتشاف العالم الجديد (الأميركيتين أستراليا ونيوزيلاندا) غيّر فكرة الهجرة من هجرة فردية أو مجهرية على سلم التواجد الإنساني في المناطق المعهودة للاستيطان، إلى نزوح جماعي بالملايين من الأسر الفقيرة الأوروبية باتجاه تلك الأراضي العذراء والمستباحة على حساب السكان الأصليين الذين وإن لم تتم إبادتهم كليا تم إدماجهم في النسق الجديد الذي كرسه ملايين النازحين.
تنتهج حكومات الأقاليم المختلفة سياسات عديدة للحد من ظاهرة الهجرة باختلاف أشكالها وتتركز الجهود في المقاومة أو الردع والمسايرة أو الفرز دون انتهاج سياسات وقائية حقيقية تتقصى الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة الاجتماعية كي تحد من انتشارها بمعالجة أصلها والحد من تفرعاتها، لكن ما دامت الحدود الدولية خاضعة للقوانين المشرعة لعبورها تظل الهجرة خارج إطار الشرع، حيث الصراع للبقاء أعظم من احترام الشرعية القانونية.

يجب التنويه بسياسات تنتهجها بعض دول الخليج والتي برهنت على مدى جدواها في الميدان، حيث نظام الكفالة مثلا يسمح لدولة قطر بتسيير أمورها الداخلية والخارجية

لا تقتصر الهجرة على مواطنين البلاد الفقيرة فقط، بل بمصطلح آخر يقوم مواطنو الدول المتقدمة بالهجرة خارج حدودهم والاستقرار في أقاليم أخرى، ورغم الأعداد المتزايدة منهم إلا أنهم لا يعتبرون مشكلة ونزوحهم يعتبر عملا خيريا من خلال تعميرهم لأقاليم أقل حضارة، جالبين معهم نمط العيش المعتمد والمرخص والمتزامن مع ما ترمي إليه الحضارة السائدة التي غلب عنها طابع المال، الاحتلال والانحلال حتى فقدت شرقها وغربها في توصيف هويتها.

إن الدول المتقدمة نفسها التي تسمح لرعاياها بالهجرة أو النزوح لاستيطان أقاليم أخرى تضع قوانين وحواجز شرعية لكل من شاء أو اضطر للهجرة إليها، حيث يظهر مصطلح الهجرة الشرعية والهجرة غير الشرعية.

في السياق نفسه يجب التنويه بسياسات تنتهجها بعض دول الخليج والتي برهنت على مدى جدواها في الميدان، حيث نظام الكفالة مثلا يسمح لدولة قطر بتسيير أمورها الداخلية والخارجية مستعينة بأكثر من 85 % من اليد العاملة المهاجرة، ذاك الإنجاز العظيم يبرهن أن مسايرة المقتضيات لا يكون بالرفض بل بمسايرة المشاكل الاجتماعية وبوضع قوانين وطنية لمحاولة إضفاء نوع من الشرعية على هذا النزوح الهائل، والذي إذا لم يتم السيطرة عليه قد يهدد كيان الدول، كما نجد معظم دول أوروبا تعاني من ظاهرة الهجرة، حيث تختلف أنواع البشر المهاجر من أصول وثقافات.

تعاني دول أوروبا الجنوبية من تدفق آلاف اللاجئين من المهاجرين الأفارقة على شواطئهم وتفاقم أعداد المهاجرين الموقوفين في المخيمات بحجة دراسة ملفات لجوئهم
تعاني دول أوروبا الجنوبية من تدفق آلاف اللاجئين من المهاجرين الأفارقة على شواطئهم وتفاقم أعداد المهاجرين الموقوفين في المخيمات بحجة دراسة ملفات لجوئهم

بالأمس، كانت جماهرية ليبية تستقبل مليوني مهاجر توفر لهم الشغل ومداخيل لهم ولأهاليهم بأوطانهم الأصلية، أما اليوم فقد اصبح البحر الأبيض المتوسط مقبرة جماعية للملايين من هؤلاء الذين فقدوا تلك الجماهيرية ولم يجدوا ملاذا إلا البحر للموت أو مخيمات اللاجئين في قارة أوروبا التي لا تفرق بين اللاجئ والمهاجر، وتبقى دول شمال غرب أفريقيا عرضة لجميع الأخطار التي ترتبط بالنزوح أو بالهجرة الجماعية.

اليوم.. وطني الجزائر، يستقطب مئات الآلاف من المهاجرين من الساحل والقرن الأفريقي نظرا لنعمتي الأمن والامتداد الجغرافي التي ينعم بهما، رغم وجود آليات شرعية للوقاية والردع من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، فتتجلى ظاهرة الهجرة في وجهين:

الشعب الجزائري بحكم ما خلفه الاستعمار بعد قرن من الاستبداد وما خلفته الحرب ضد الإرهاب أصبح غير مؤهل للقيام بأعمال يدوية بسيطة

– النزوح بغرض عبور البحر الأبيض: تعاني دول أوروبا الجنوبية من تدفق آلاف اللاجئين من المهاجرين الأفارقة على شواطئهم وتفاقم أعداد المهاجرين الموقوفين في المخيمات بحجة دراسة ملفات لجوئهم، وتعاني أيضا من الخطاب السياسي المتطرف الذي يزداد قوة بزيادة هذه الظاهرة، فتتهم حكومات دول جنوب البحر المتوسط بالتقصير والسكوت على المتاجرة بهذا النوع من الأزمات، لكن الجزائر تساهم بما يفوق تصورهم فتحتوي مئات المحاولات من منبعها بعدما جرمت شرعا محاولة الهجرة السرية، مما جعل معظم المهاجرين الأفارقة يقصدون ليبيا المصابة للإفلات الأمني الذي تعيشه جراء التدخل الأجنبي في شؤونها الداخلية.

– النزوح بغرض الاستيطان: الجزائر دولة حرة يقطنها شعب متعطش للحرية ومتفهم للويلات التي تقود هذه الحشود البشرية الأفريقية إلى مغادرة أوطانها واللجوء إلى ترابها، لكن طابع الإنسان الجزائري يمنعه من إنشاء مخيمات مغلقة محروسة لتصبح بمثابة مراكز حجز واحتجاز لآلاف البشر على أساس عدم انتمائهم للهوية الوطنية، إن المخيمات الموجودة في الجزائر مفتوحة وتديرها هيئات غير حكومية ذات طابع إنساني مما يضفي عليها صورة لمخيمات للراحة، لأن البشر بطبيعتهم لا يملكون حدودا لحاجياتهم فما إن يضمن المرء أمنه، بحث عن غذائه، وما إن ضمن غذاءه سعى للاستيطان وإقامة حياة مستقلة تسمح له بالتفتح والانسجام مع محيطه الجديد ناهيك عن الأعداد الهائلة للأطفال الصغار الذي تحضره هذه الموجة الهائلة من النزوح البشري.

من جهة أخرى ورغم وجود قانون لتشغيل الأجانب، فإن الاضطرابات الجهوية تلزم إجراء تحيين وتعديل لبعض مواده حتى يتسنى للوضع المراد أن يلتقي بالوضع الموجود، إن الجزائر تنعم بأراضي فلاحية وبمواقع سياحية واسعة، ولكن الشعب الجزائري بحكم ما خلفه الاستعمار بعد قرن من الاستبداد وما خلفته الحرب ضد الإرهاب أصبح غير مؤهل للقيام بأعمال يدوية بسيطة مثل الفلاحة الصناعية اليدوية وغير قادر على القيام بمهن الخدمات السياحية البسيطة.

إن تأطير اليد العاملة المهاجرة أصبح أمرا لا مفر منه، فلا بد من استكمال المعلومات الخاصة (إذا توفرت) للمهاجرين ببطاقات إقامة وطنية إلكترونية خاصة بالمهاجرين، ووضع آليات تسمح بتحويل بعض مداخيلهم إلى أهاليهم الذين يقطنون في أقاليمهم الأصلية لمساعدتهم وإعطاء فرصة الرجوع بعد انقضاء السن القانونية للعمل، كما يجب وضع آليات لاستقبال الأهالي المهاجرين في قرى تنشأ قرب المناطق المقرر إنعاشها اقتصاديا بمشاريع فلاحية أو سياحية. تحتوي على مستلزمات الحياة وعلى نسبة كبيرة من الأمن في ظل القانون الوطني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.