لمطلع سبتمبر في نفوس الإريتريين مزيج من تلك المشاعر التي تراودك حين تعثر فجأة على صورة عائلية قديمة، حالة وجدانية تختلط فيها الذكرى بالحب والأمل بالحسرة، تأخذ بيدك إلى تأمل أين كنا وأين انتهى بنا الحال، ليس لأنه شهر الخريف والجمال والأحلام فقط.. بل لأنه شهر بدأ بثورة، وانتصف بانقلاب، أما نهايته فما تزال منتظرة!
كانت إريتريا يا سادتي عقب الحرب العالمية الثانية على مفترق طرق بعد جلاء الإيطاليين عنها، ولأول مرة وقف أبناؤها أمام سؤال المصير والمستقبل الذي اختلفوا حول ملامحه، وفي أربعينات القرن العشرين ظهرت في زحمة البحث عن الجواب أحزاب، وصحف، وجمعيات، في تلك المرحلة كان لإريتريا علمها الوطني، وبعد سنوات كان لها برلمانها ودستورها ونظامها الديمقراطي، في زمان كانت أكثر دول العالم الثالث فيه تعيش عهد الاستعمار، والذي بلغها في النهاية بقرار من الأمم المتحدة بعقد اتحاد فيدرالي بينها وبين الإمبراطورية الإثيوبية التي كان نظام حكمها ينتمي، في أفضل الأحوال، إلى القرون الوسطى.
وإن كان للمصادفة موضع في تاريخ إريتريا فخطوط بصمتها تتراءى في مطلع سبتمبر 1961. فبعد إنشاء جبهة التحرير الإرترية في القاهرة 1960 على يد قادة منفيين وطلاب تبنوا فكرة العمل المسلح، تواصلوا مع القائد الشهيد حامد إدريس عواتي الذي وافقهم على البدء بالثورة المسلحة في الداخل، وقبل استكمال الإعدادات فوجئ بالسلطات الإثيوبية تستدعيه عندما شعرت باتصالاته بالحركات السرية، فخرج إلى الجبال مع جماعة من رفاقه ببنادقهم العتيقة في الأول من سبتمبر 1961، معلناً بداية حرب التحرير التي استمرت 30 عاماً، واستمر عواتي معها وبعدها رمزاً اتفق عليه الإرتريون الذين اختلفوا سواه على كل شيء.
قاتلت الثورة إمبراطوريتي الشر إبان الحرب الباردة؛ قاتلت هيلاسيلاسي إمبراطور الحبشة ورجل أمريكا في أفريقيا، الذي ضم إريتريا خارقاً القرار الأممي الفيديرالي لأنه لم يكن بوسعه قبول الاتحاد مع كيان بنظام سياسي ديمقراطي وبرلمان وأحزاب ودستور ونقابات كإريتريا التي كانت ستتحول إلى نموذج "مفسد" لبقية القوميات في إثيوبيا، وللمفارقة فإن إجراءات الضم التي اتخذها كانت سداً لأي طريق أمام الإرتريين إلا نحو خيار الثورة المسلحة التي كانت سبباً رئيسياً لتمرد الجيش على الإمبراطور، وطي صفحة الإمبراطورية 1975، رغم الدعم العسكري والسياسي السخي من جانب الولايات المتحدة. كان ذلك الانقلاب تغييراً لمسار النظام السياسي في إثيوبيا، وبنقلة واحدة استولى على الحكم ضباط شيوعيون، وتحولت إثيوبيا إلى رجل الاتحاد السوفيتي في أفريقيا، غير أن هذا النظام "التقدمي" لم يكن أكثر عقلانية أو إنسانية في معالجته لقضية إريتريا، فاستمرت الثورة حتى انتقلت عدواها إلى داخل إثيوبيا وأسقطت نظام العقيد منغستو هيلاماريام في 1991.
كانت الثورة خياراً مراً وعقوداً ثلاثة من الحرمان واللجوء وحروب الأرض المحروقة، لم يخل بيت من مناضل أو شهيد أو جريح، واستمرت الثورة تصنع ملحمتها مدفوعة بقوة الحلم، كان لها انتكاساتها.. نعم، وكان لها أيامها المجيدة. وحينما يتأمل المرء في الشيء الثمين الذي دفع الجميع إلى هذا الأوار المشتعل، ربما سيجده في الرغبة في وطن مستقل ينجيهم من لهيب الاستبداد، وهو ما ينعكس بجلاء في أدبيات فصائل الثورة المسلحة ومنها الجبهة الشعبية الحاكمة الآن، والتي أقرت في رؤيتها لإريتريا المستقبل في برنامجها السياسي بعد مؤتمرها الوطني الثاني (1987) كفالة الحقوق الديمقراطية للشعب؛ والتي تتمثل في حرية الرأي وحرية الصحافة والنشر، وحرية الاجتماع والتظاهر، وحرية العقيدة، والسماح بتكوين الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.
لكنها ما إن استوت على عرش البلاد مع تحريرها 1991، حتى أعلن الرئيس أسياس أفورقي أنه لا مكان للأحزاب في هذه البلاد.. وكانت هذه البداية. ورغم الجهود التي تمت لصياغة دستور وقوانين للأحزاب والصحافة، إلا أن كل هذه الجهود تعطلت بالحرب مع إثيوبيا 1998-2000، والتي كادت تقضي على استقلال إريتريا من جديد، وهو ما أدى إلى ارتفاع الصوت المتسائل ثم المعارض: المتسائل عن المسؤول عن اندلاع هذه الحرب وإدارتها التي أدت إلى تلك الهزيمة، والمعروف ضمناً أنه الرئيس، والمعارض لاستمرار هذا النهج في إدارة الدولة. وبدأ قادة في الحزب الحاكم بالتصريح علناً ضد سياسات الرئيس ورفع مطالب التغيير، وبدأت الصحف تزداد جرأة وتدخل أخيراً صلب السياسة، وبدأ المجتمع يستعيد دوره في التقييم والاعتراض.
وعند هذه اللحظة كانت مفاجأة 11 سبتمبر يإسقاط برجي التجارة في نيويورك 2011، وفي غمرة انشغال العالم بذلك وفي منتصف سبتمبر بدأ وأد هذا الربيع بإغلاق الصحف واعتقال محرريها، وأُدخلت البلاد في الاستبداد، حيث لا دستور ولا برلمان ولا أحزاب ولا صحافة حرة ولا نقابات مستقلة ولا انتخابات، وحيث انتهاك كل حقوق الإنسان عمل روتيني يتكرر كل يوم.. مرحباً بكم هذه إريتريا أسياس أفورقي!
وإن كانت تصح المقايسة فمن الشائع القول إن سن الأربعين هو أوان اكتمال نضوج وعي الفرد، وفي إرتريا وبعد الذكرى الأربعين لاندلاع الثورة بأيام، وبدل العمل على إكمال نضوج المشروع الوطني وانتقاله من أفق الثورة إلى أفق الدولة، قاد أسياس أفورقي انقلاباً لا على قيادة حزبه فقط، بل كان الانقلاب على المشروع الوطني برمته، بجوهره القائم على مركزية الحرية للدولة وللأفراد، وهذه العقلية العسكرية التي قادت الانقلاب حولت الوطن وشعبه إلى جندي في معسكرات خدمة العلم، وتعاملت معهما بمنطق الأمر العسكري..انتباااااه..إلى الوراااااااء دُر!
في طفولتنا عام 1987، بعد 26 سنة من انطلاق الكفاح المسلح، كانت تقام الاحتفالات بقدوم سبتمبر ككل عام، وكان الإريتريون بين اثنين: مؤمن بالتحرير ومن يرى ذلك مثالاً جيداً للمُحالات، ولكن كان هذا النوع من النقاش من اختصاص الكبار، أما نحن الأطفال فكنا بكل ما نملكه من براءة نصفق للأناشيد حتى تحمر أكفنا، وكأننا بذلك نقبض على يقيننا الطفولي بحتمية النصر، كانت المعادلة بسيطة واضحة أمام أعيننا: محتل يقابله ثائر، وحق يقابله باطل، والناتج وطن حر دون كسور. واليوم بعد 26 عاماً من حكم أسياس ما زال سبتمبر يطل علينا كل عام، وما زلنا نقبض على حلم طفولتنا بوطن حر دون كسور، وما يزال صدى النشيد يتردد وإن اختلف "الغاصب" المخاطَب:
وتقبل أنت سبتمبر- نعانق وجهك الأسمر
ومهلاً أنت يا غاصب- كرامتنا فلن نقهر
يا وطني سنفرح يوماً يا وطني- بعيد النصر
يا وطني.. تهلل وجهك إيذاناً – بقرب النصر
يا وطني.. تهلل وجهك إيذاناً بقرب النصر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.