شعار قسم مدونات

في مواسم الحرب

blogs غرب ليبيا
بتوالي أيام الحرب تعلمت العيش مع الرصاص وقد صار أنيسا لجدار غرفتي (رويترز)

تتحدث الروائية المبدعة أغوتا كرستوف في كتابها "الدفتر الكبير" عن الحرب من زاوية أخرى أكثر عمقا من أصوات القصف ورائحة الدماء، فتذهب لتصفها عبر توأمين متطابقين شديدين الذكاء يتحدثان معا في آن واحد، تضطر والدتهما لتركهما عند الجدة البغيضة بسبب أوضاع الحرب، حيث يمران بظروف قاسية لم يألفاها من قبل، ومن ثم يحاولان التدرب على الجوع والضرب وسماع الكلمات المؤذية حتى تعتاد أجسادهم الصغيرة وآذانهم على كل أذى يمران به من قبل الجدة أو من أهل المدينة الغريبة، ومن هذا المنطلق توضح الكاتبة أن الحرب ترغمنا على إخراج أسوأ ما فينا، على أن تنزف دواخلنا دون أن تتمرد قطرة واحدة إلى الخارج.

هذه الرواية لشدة عمقها إلا أنها كانت تحمل من الألم ما لم أستطع معه صبرا فكان الفراق بيني وبينها عند الصفحة السابعة والثلاثين، وعلى من يحاول البحث عنها ألا يكون من ذوي القلوب الضعيفة.

أحاول عبثا تذكر اليوم الأول من الحرب، ولا أظفر إلا بصور متفرقة، وحوارات غير مكتملة وكثير كثير من الخوف، ولكننا هنا وبعد مرور كل هذا الوقت لا نحاول تذكر أي شيء يتصل بالأيام الأولى، هذه الحرب باتت كجراحات الروح لها أول لكن ليس لها آخر. إن تذكر الأيام الأولى هو فعل ترف لمن لم يكفه حزن واحد، لمن يبحث عن هويته بين فتات الأيام كل ليلة وينام مترعا بالفقد.

كثيرا ما قلت إن الحرب غيرتنا، شوهت أماكن قصية من وجداننا، واليوم أقر بأنها تغير المدن أيضا، تصبح باردة مترعة بالخواء، المدن أيضا تغادرنا، تخفت بهجة صباحاتها

بتوالي أيام الحرب تعلمت العيش مع الرصاص وقد صار أنيسا لجدار غرفتي، لم أعتد السير في الظلام كي لا يثقبني الرصاص، لم أحاول أبدا الاعتياد ولكني أجدت المشي بخفة بانحناءة رشيقة لأصل دائما إلى وجهتي. تشرع عيناي للنظر إلى الفراغ، ألتحفه كآخر ما أملك وينخر البرد جدارات الروح المهترئة، وكثيرا ما أقدمت على خلعه، على انتشال بعض من الحياة أسد بها رمق الخواء داخلي وما ألبث حتى تتجلى الحقيقة التي كنت أخبئها عن نفسي وتعلو صورة الحسرة على كل محاولة عبثية، فلا تتبقى من ملامحي عدا الخيبة وطوعا أتخلى عن كل راياتي.

كنا نسير في دائرة تنتهي من حيث بدأت، نصافح الموت الذي لا يغيب ولا يحضر، نمارس الأفعال الحمقاء ذاتها، ونتبادل الأحاديث نفسها دون أن نشعر برتابة الموقف. هذه الحرب وعندما دخلت بنغازي أصابت أرواحنا بالعطب، أحالتنا إلى أطياف معطوبة، وغاصت في أماكن قصية من قلوبنا، غفت تحت جلودنا فلا تبتعد عنا مهما أوغلنا في الهرب.

في مكان آخر سألتني صديقة: هل تخشين الرصاص؟ فاجأني السؤال رغم أنه كان متوقعا، لقد عشت والرصاص زمنا مديدا، كنا نجمع أغلفته ونضعها كتذكار عسى نذكرها يوما ونضحك و"نعلل أنفسنا بعسى"! ولكني لم أعتد الحرب أبدا، وكنت أخشى الرصاص والطائرات ونحيب الجيران أيضا، صديقتي لم تع معنى أن تخرج من الحرب، كانت تسألني عن بنغازي كثيرا دون أن تحظى مني بإجابة. لم تفهم أن المدن التي تتسلل إليها الحرب تموت ولا ينبغي الحديث عنها.

كثيرا ما قلت إن الحرب غيرتنا، شوهت أماكن قصية من وجداننا، واليوم أقر بأنها تغير المدن أيضا، تصبح باردة مترعة بالخواء، المدن أيضا تغادرنا، تخفت بهجة صباحاتها، تصبح ملامحها الدافئة أطيافا تحلق في سماء الذاكرة، أجوب أزقتها وينتحب في رأسي شطر من الشعر في رأسي: "لا أنت أنت ولا الديار ديار"؛ ويبقى سؤال وجودي واحد، عالق كغصة في عنق قلبي: متى تعود الأوطان أوطانا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.