شعار قسم مدونات

وليالٍ عشر!

blogs دعاء
الأكفّ المتعلقة بأستار الرجاء لا تغفلها عين الله (رويترز)
كان النهار قد أخذ دورته حتى هدأت جوارحه وأتى الليل بستاره المسدول يخيّم بالظلام والسكون، لليلِ محبيه المخلصين، من يجدون بين جوانحه أنفسهم ويَتكشَّف في عتمته ضعفهم، يصادقون القمر ويأنسون بالنجوم حتى أنّ لهم مع كلّ نجمة سرّ لا يعرفه سواهما!

يتراءى لي في كثيرٍ من تلك الليالي الساهرة أنّ جَمال الكون قد انتصف بين ليله ونهاره، لكن سحره كله ذهب لليل وحده يُكافأ به المنتظرين، من جافاهم النوم أو ضنّوا به على أنفسهم؛ يُسقيهم من سَكرته فلا ارتواء يكفيهم ولا عطش يشقيهم! كيف الارتواء من سحر السكينة المجدول من مناجاة المؤمنين، يبدو الليل هنا مخبأهم الأمين، تحت عباءته تُسكب العبرات وتُطرح الرجاءات فلا تطلع الشمس إلا وقد أخذت القلوب طلبها واطمأنت النفوس إلى أقدارها.

يقولون أن النظر في كتاب الله المنظور بابٌ للإيمان، ترى فيه آيات الله البديعة المُحكمة وتستدل به على عظمة الخالق، وليس أدلّ على قولهم من سماء الليل، هذا البهاء السنىّ، معيّة القربِ في ثلثه الأخير وقد عرفت أن الله – جلّ وعلا – حاضرٌ لإجابة سؤالك ومغفرة ذنبك، تبثّ حزنك وتحمد فرحك واثقاً من أنه السميع المجيب، ولمثل هذا يكون الامتنان الخالص.

إن الأكفّ المتعلقة بأستار الرجاء لا تغفلها عين الله، وأنّ معارج الليل حاضرة لكلِ نداء، وأننا في وَحشةِ الحياة ضعفاء بأنفسنا، فقراء بحولنا، لا زاد لنا سوى قلبٌ سليم نطمع به حين اللقاء

أذكر هنا أول لقاءٍ مع الليل، وأول الحبّ المستحق لصحبته، حينما بدأت في دراسة مادة "العقيدة"، وما فتحته على عقلي من أسئلة مركبة عن الله ووجوده والعرش واستواءه، عن الكون وموقعنا منه، الحشر والنشر وغير ذلك من مسائل الإيمان والتوحيد، كان عقلي يضجّ بالأسئلة ولم تكن إجابات الكتب الدراسية كافية، ولا محاولات البحث المحدودة شافية، ثمّة مخرج من كل هذا الضجيج الذي نازعني في هدوء نفسي، ثمّة بابٌ للوصول والتبصر بما يتجاوز السؤال والإجابة إلى تمام التسليم والإيمان.

كان ذلك مع دخول العشر الأوائل من ذي الحجة، حينها كانت سماء الليل ملاذي الآمن، استتر بعتمتها وآنس بقمرها وأناجى خالقها، كانت أحاديث رائقة صادقة، فدائما ما يكون للسؤال الصادق شغفٌ لا تخطئه العين! كما يفتح الله بالصدق من أبواب قلبك ما لا تحيط به علماً، ويفتح قلبك المطمئن من أبواب عقلك المضطرب ما ترى به إجابة سؤالك جليّة لا شك فيها، فلا إجابة بغير صدق، ولا بصيرة بغير سلامة قلب.

اليوم، وبعد مرور كل تلك السنوات، لازال لتذكر هذه الليالي وقعه في نفسي ورجفته في قلبي، يوم أن امتلأ عالمي بالرضا وحسن الظنّ بأن الله الذي خلق لنا ليلاً يتنزلّ فيه من عليائه ليسمعنا لهو أرحم بنا من سوء ظنوننا، وأن الأكفّ المتعلقة بأستار الرجاء لا تغفلها عين الله، وأنّ معارج الليل حاضرة لكلِ نداء، وأننا في وَحشةِ الحياة ضعفاء بأنفسنا، فقراء بحولنا، لا زاد لنا سوى قلبٌ سليم نطمع به حين اللقاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.