شعار قسم مدونات

جِنازة البر الثاني

مدونات - مقابر
الوقت قد توقف عندما لم يجد الدماغ بدا من الاستجابة التامة للجلطة التي أتتها سريعا للمرة الثانية خلال أيام، لكن الوقت ما زال يداهمني حتى ألحق بالمشيعين. "نحن الآن في انتظار المعدية التي ستنقلنا إلى البر الثاني، ستجدنا في آخر البلد" هكذا أجاب محدثي عندما سألته عن مكانهم، كانت العجلات تلتهم الطريق في محاولة لمزاحمة الوقت، وعندما وصلت أخيرا كان ترس المعدية قد بدأ يلملم سيره الحديدي ليرتفع لسانها عن الأرض وتأخذ طريقها في الماء.

قفزت داخل المعدية التي كانت تغص عن آخرها، قطعة حديد ضخمة منبسطة وصدأة، مرجل ينفث دخانا ثقيلا في صدر النيل المنسدل، وسيارات نصف نقل تحمل فوقها الرجال، كل سيارة ربما تحمل ثلاثين رجلا، ربما كانوا خمسة سيارات أو أكثر، الماء يحمل العبارة التي تحمل السيارات التي تحمل الرجال، وعشرات الماكينات كما يحبون أن يطلقوا عليها أو الدراجات البخارية كما نعرفها. فور أن حط لسان المعدية على البر الثاني انطلقت الماكينات وخلفها سيارات النقل تُمايل الرجال فوقها يمنة ويسرة في الطريق المنعجرة.

ما لبثت الأرض المخضرة أن أكلها حجر الجبل الأبيض وبدد نضرتها، الغبار أخذ يتطاير من أثر المسير في الطرق المعبدة في الجبل وصولا إلى المقابر، هناك وجدنا أضعاف ما كان عند المَعَدّية، يبدو أن هناك دَورا أو اثنين سبقونا إلى هنا.

القبور قبورا، لا ترتفع عن الأرض إلا شبرا واحدا بمقدر الشاهد، الأسماء مكتوبة على حجر أو رخام أو محفورة على سطح القبر أو متروكة غير معلومة، الأرض هابطة وصاعدة واللحود متجاورة ومتباعدة، لا أحواش ولا أسوار ولا صفوف منتظمة مخطوطة ولا قباب خضر أو أقفال حديد، فقط نتوءات صغيرة بلون الأرض لا تكاد تميزها، والناس وقوفٌ بعد أن أنزلوا الجثمان ساكنون على رؤوسهم الطير.

وقف الناس فريقين، فريق يعزى، وفريق يتلقى العزاء، لوهلة تحسب أن الثاني لم يكن بأقل من الأول على أي وجه، هل كل هؤلاء أهله، أم أن هؤلاء ودوا لو فعلوا أكثر من تشييع الجنازة والسلام؟

الناس ناسا، معممون بالشالات الثقيلة الداكنة كالتيجان فوق الجباة، أو معتمرو الطواقي البنية العالية وحولها الشالات البيض المدورة، يلبسون الجلابيب الزهرية والبنية الواسعة، أو القمصان العادية غير المحشورة في البناطيل، ينتعلون أخف النعال المفتوحة المتسامحة مع الغبار وطين الأرض، ذوو أسنان قد خط الزمن في وجوههم ونقشت الأرض أخاديد في أيديهم، أو حديثو الأسنان قد نفرت العروق في سواعدهم ولوحت الشمس وجناتهم، تحب أن تطيل النظر فيهم كأنهم نبت هذه الأرض لم تتلطخ جباههم بعد بآثام المدينة، أو هم في أقل درجة من آثارها تلك على كل حال.

آخر مرة زار فيها هذه القبور كان قبل 4 أعوام، في نفس الشهر تقريبا، في نفس المكان كان يقف ليأخذ عزاء أبيه، على بعد عدة خطوات من منزله الآن جواره، وعلى بعد عدة أيام من الفض الذي حدث ساعتها، هل قلت الذي حدث ساعتها؟ عفوا بل الفض الذي يحدث من ساعتها، ربما ما أراه الآن هذا هو الحشد الأكبر الذي أشهده منذ أن انطلقت الرصاصات تحصد الناس إثر قرار منع التجمهر والتظاهر.

لا أعرف السر الذي بيني وبين الحشود، لا أستطيع أن أقاوم سحرها أبدا إذا اجتمعت، قلبي يدق وعيني يتأرجح فيها شيء من الدمع الخفيف وتلمعان، بالأخص نوعا معينا من تلك الحشود، ذلك الذي يجمع الأشتات والأضداد بغير جامع ولا داع.. تهزأ الفكرة وتسخر مني اليوم مشيحة بوجهها عني: مه.. تالله إنك لفي ضلالك القديم.

هذه الأرض تعرفه جيدا، مذ أن كان شابا صغيرا يعمل في إدارة المكافحة الزراعية على حدود هذه المدينة في المحافظة المجاورة، حتى انتهى إلى مدير الخدمات الزراعية كلها بـ "بوش"، عفوا "ناصر"، كما تحب الدولة أن تسميها، لكن هؤلاء الناس يعرفونه أكثر منذ أن كان شابا صغيرا يصلي في الجامع ويحث زملاءه على بعض الأنشطة بالمسجد إلى أن أصبح نائبا عن كل هذه البلاد المترائية من خلف ضفة النيل، هنا في أشمنت أو هناك في أبو صالح والرياض وطحا والحرجة وشريف باشا وبني عدي ودلاص ودنديل، في كل هذه الكفور لم تكن الجدران هي التي تحمل صوره الملونة على الحائط وبجواره الرمز الانتخابي فقط، بل قلوب الناس أيضا.

أيهما المقبرة التي كان فيها لعامين مضيا، هناك في سجن العقرب -أو في مقبرة العقرب كما نسميها، كما تسمي نفسها على كل حال- أم هذا الذي صار إليه؟

تساءلت لم جاء كل هؤلاء رغم أن فقيدهم قد مات في محبس السلطة متهما بأخطر التهم في البلاد، تحريض على الدماء وقتل وإرهاب وترويع وتفجير وحرق وكل ما حدث ويحدث في الصعيد منذ ذلك الفض منسوب إليه؟ لقد شاهدت الآلاف بأم عيني يتحولون عن جيرانهم وأقرب الأقربين لأن التلفزيون يقول عنهم أنهم "آكلوا لحوم البشر"، ما هذه الحشود إذن؟!

يخبرني من ذكرت له الأمر متعجبا أنني لم أر شيئا، لم أر ذلك الرجل الذي لم يكن يغلق دون الناس بابا، لم أر ذهابه وإيابه في حاجة الكبير والصغير، لم أر الطوابير التي احتشدت قبل زمن الثورات والحشود في 2005 كي تعطيه أصواتها وتمنحه هذه الدائرة باكتساح، وأنني لن أرى كيف لهذه الجنازة أن تصبح لو أعلنوا فقط قبلها بفترة كافية لباقي الأرجاء أن تتجهز ويحضر من شاء منها.

الشيخ ذو اللحية الطويلة يخطب على القبر، يُذكر بالموت ويعظ، ويختم بحديث "وجبت": (هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار؛ أنتم شهداء اللَّه في الأرض) يتمتم الجميع بالصلوات والرضوان على صاحب الكلام المعصوم -صلى الله عليه وسلم-.. العيون تجمع ما بين الحزن والغضب والحسرة.. الزفرات تخرج بمشوبة بالألم والعيون تتقلب بين الوجوه وفى السماء وتتساءل: حتـّام!

أهيل التراب، وسُد القبر، وقف الناس فريقين، فريق يعزى، وفريق يتلقى العزاء، لوهلة تحسب أن الثاني لم يكن بأقل من الأول على أي وجه، هل كل هؤلاء أهله، هل هي على عادة الزيادة في الواجب عند أهل الصعيد، أم أن هؤلاء ودوا لو فعلوا أكثر من تشييع الجنازة والسلام، فوقفوا كأهلها يأخذون الواجب بأنفسهم، كان الصف طويلا يلتف كمستطيل ينقصه ضلع ويتكون ربما من مئة وخمسين رجل.

ماذا لو لم يكن أصحاب راحلنا مقيدون في سجونهم، هل كان يمتلأ بطن هذا النهر سفنا، ماذا لو كان لسان هذه السلطة أقصر أو يدها ألين، هل كنا رأينا أضعاف هذه الحشود تسد الأفق؟

الشمس من خلف الوادي تميل للغروب، النخيل تتراءى من بعيد وأسراب الطيور عائدة إلى وُكناتها، سيارات النصف نقل تمتلئ مرة أخرى وتتهادى كالجِمال بالرجال مثيرة وراءها غبارا أبيض تختفي خلفه شيئا فشيئا، ونفر منهم لم يجد مكانا فرجع راجلا كل هذه المسافة حتى يعبر النيل مرة أخرى.

أيهما المقبرة التي كان فيها لعامين مضيا، هناك في سجن العقرب -أو في مقبرة العقرب كما نسميها، كما تسمي نفسها على كل حال- أم هذا الذي صار إليه؟ إذا كان هناك من هو حقيق بوعد عدم جمع الأمنين ولا الخوفين على عبد من عباده فهؤلاء السائرون يا رباه من السجن إلى القبر، إن لم يكونوا هم فمن!

تزمجر تروس المعدية مرة أخرى، الشمس قد ماتت خلف الغيطان وآثار شعاعاتها في الافق ما زالت تشيعها، والكروان يصدح بزفرة أخيرة قبل أن تلمع أول نجمة في الأفق، البر الثاني يتباعد أكثر فأكثر، عالم آخر يغيب بأهله، أشعر أن كل هؤلاء ما عبروا هذه العبور إلا رغما عن كل شيء تحاول سلطة ما أن تسقيه للبشر، كل نعوت وصفات الإرهاب التي لحقت فقيدهم لأعوام خلت لم تعبر إلى البر الثاني معهم، بل ربما حاولت العبور فابتلعها البحر.

ماذا لو لم يكن أصحاب راحلنا مقيدون في سجونهم، هل كان يمتلأ بطن هذا النهر سفنا، ماذا لو كان لسان هذه السلطة أقصر أو يدها ألين، هل كنا رأينا أضعاف هذه الحشود تسد الأفق؟ ماذا لو تركنا للسلطة ومغرميها برهم، وأبحرنا جميعا للبر الثاني؟ هل يلحقوا بنا؟ أم يبتلعهم اليم؟.. يهتز السطح الحديدي هزة خفيفة معلنا انتهاء الرحلة، تنطلق عشرات الماكينات والسيارات من خلفها معلنة رثاء صامتا أمام البيوت التي خرج جميع من فيها ينظر إلى المسيرة بعيون جامدة لم تكن معنا اليوم على البر الثاني، من يدري ربما تكون غدا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.