شعار قسم مدونات

رجل دين "آلي"

مدونات - رجل دين آالي
نتيجة لانشغال الكهنة البوذيين وارتفاع الأجور التي يتقاضونها في المناسبات، قامت شركة يابانية بصناعة "روبوتات" تؤدّي نفس الشعائر الدينية في الجنائز كبديل عن الكاهن البشري.. حيث يرتدي "الروبوت" اللباس التقليدي للكاهن ويرتل الصلوات البوذية بصوته المسجّل ويتمنّى للميت الراحة الأبدية ويدق الطبل أيضاَ.

طبعاً جاءت فكرة الشركة باختراع "رجل دين آلي" بسبب تقدم سكان اليابان في السن وانخفاض أعداد الشعب وبالتالي المردود المادي للكاهن "الجنائزي" صار ضعيفاً مما جعله يبحث عن عمل إضافي يعتاش منه، وعند حدوث وفاة في البلدة أو المدينة وطلب الكاهن ليقوم بالقراءة والدعاء للمتوفى فإنه غالباً ما يعتذر لانشغاله أو يطلب أجراً عالياً مقارنة بالخدمة التي يؤديها.. من هنا جاءت الفكرة، بما أن "الصلوات" هي نفسها، ودق الطبل لا يتغير بتغيّر الميت ومكانتهن فهي تتم بطريقة "روبوتية" دون مشاعر حزن حقيقية فما المانع من استبدال الرجل الآلي بالكاهن.. على الأقل لا يتدخل "الروبوت" في إصدار فتوى اعتباطية على هواه تقرر مصير الميت إن كان في الجنة أو في النار.

في ظل وجود "أشباه دعاة " و"أسداس متفقهين" أعتقد أننا سنكون -نحن أيضاَ- بحاجة إلى "روبوتات" في يوم ما لكثرة ما نشاهد من متقمّصين ومتسرولين لهذه المهنة.. فكل شيء بحاجة إلى تدرجّ وتدريب وترخيص إلا أن تصبح "شيخاً مفتياً" في مجتمع لا يميز الخبيث من الطيب.

رجل دين آالي - اليابان (رويترز)
رجل دين آالي – اليابان (رويترز)

كهربائي السيارات مثلاً، لا يستطيع أن يفتح محلاً للتصليح ما لم يعمل كـ "صبي" محل لدي كهربائي محترف ردحاً من الزمن، وقبل أن يزاول مهنته عليه أن يستخرج رخصة تجارية وتصريح مزاولة من البلدية والمنطقة الحرفية المختصة، الحلاق أيضاَ لا يستطيع أن يفتح صالوناً للحلاقة ما لم يحصل على "دبلوم" تزيين وشهادة من نقابة الحلاقين، أما الشيخ في بلادنا العربية حتى يصبح شيخاً وداعية لا يتطلب منه الأمر سوى ثوباً قصيراً بسعر زهيد ولحية مجانية تنمو بمرور الوقت، عندها سيتقدّم الصفوف عنوة ويجعل نفسه إماماً ويرد على أسئلة المستفتيين وهو لا يجيد قراءة سورة الفاتحة بتشكيلها الصحيح..

الله أقرب منكم جميعاً، وأرحم منكم جميعا، وأعدل منكم جميعاً.. يكفي تقمّص دور السجّانين والمحققين والجلاّدين باسمه.. فإما دعوة بعلم، وإما الصمت والتنحّي..

المسألة جدّاً خطيرة أن يحمل شعلة التنوير من لا يصونها فلا يفرّق كيف تكون مصدراً للنور ومتى تكون مصدراً للنار، خطير جدّاً أن يستلم مقود الفتوى كل من أطال لحيته لانشغال أو موضة ولبس قصير الثياب وأسدل غطاء رأسه على كتفيه وهو لم يقرأ أكثر من الحكم والأقوال المأثورة الموجودة خلف ورق الروزنامة، خطير أن يفتح أيا كان "بسطة" لآرائه وأفكاره أمام الإسلام بعالميته وشموليته وسماحته وسعته واتساع بحوره ويدّعي أنه الوكيل الحصري والمخوّل الوحيد بالتجريم والتبرئة..

أحدهم أصدر حكماً مجانياً أبطل فيه صلاتي قبل أيام بحجّة أن قدمي اليمنى لم تلامس قدمه اليسرى ولم يحتك البنصر بالبنصر ولم يتعارف الإصبعان على خطّ السجّادة.. هكذا بكل بساطة أبطلها الأخ وطلب مني الإعادة ثم انطلق إلى محل "عطوره" الذي يبيع فيه العطور المركبة والمقلّدة على أنها أصلية.. فمن أين نهل الأخ "كارتير" علمه؟؟

بعضهم يستنكر عليك أن تترحم على متوفّى ويتمنى أن يجمعك الله معه، ثم يخرجك من المّلة في ثوانٍ معدودة، برأيه لا يجوز أن تقول "رحمه الله" لأي كان سيما إذا كان الميّت مغاير لك بالمذهب أو الطائفة أو يمارس الفسق من وجهة نظر الشيخ المزاول.. مع أن الاحتجاج على التلفّظ بـ "الرحمة" هو بحدّ ذاته تألّى على الله، ومصادرة لحكمه وتطاول على عدله.. الله وحده من يقرر الغفران من عدمه والرحمة من عدمها، لا يوجد ناطق رسمي باسمه.. الله أقرب منكم جميعاً، وأرحم منكم جميعا، وأعدل منكم جميعاً.. يكفي تقمّص دور السجّانين والمحققين والجلاّدين باسمه.. فإما دعوة بعلم، وإما الصمت والتنحّي.. علاقة الخالق بعبيده ليست بحاجة إلى وسطاء "شرعيين" ومندوبين معتمدين ولا موزّعي رحمات وعذاب.. بما أن الله بجلاله الخالق العظيم أقرب إليّ من حبل الوريد.. فكل من سواه بعيد..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.