شعار قسم مدونات

لماذا يقتلنا البحر؟

مدونات - بحر غزة
وقف هكذا من دون سابق إنذار، خلع عنه الملاءات وألقى بالشراشف بعيدا وحرّك أقدامه الساكنة منذ 27 عاماً متجهاً نحو النافذة. كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها فيلم "البحر في داخله" كافية لمنحي تساؤلات بلا أجوبة ممكنة تلهيني عن تلك التي أعرف أجوبتها فعلاً دون أن أتخذ نحوها أي خطوة حقيقية، ولعل هذه الوظيفة الوحيدة التي يجيدها المقهورون دوناً عن غيرهم.

أحسست برغبة جامحة لأن أكون "رامون" في موقفه المهيب هذا، أن أكسر شللي أنا أيضاً وأقفُ كعملاق خامد طال انتظار ثورته فأنفُض عنّي يأسي وأصنع بيدي طريقي ملقياً ورائي كل ما كان يشدني نحو هوّة مظلمة فيها عيون لامعة لغرباء ينون، بحسب إحساسي فقط، التهامي في أقرب فرصة تمكنهم من ذلك.

رامون الذي وصل النافذة يلقي بنفسه نحو البحر، هو ذاته البحر الذي تسبب في شلله فقعد أسيراً لبطء الزمان وحصار العجز حين التهمه اليأس وأكل على قلبه نزوعٌ نحو وحدةٍ قاتلة، لكنّ البحر يرفض قتله للمرة الثانية، فيطوف كنسمة خلفتها الرياح، أو دعني أقول كحلم ليلة صيف على سطح منزلٍ قروي، بين التلال والسهول ينتهي به المطاف في أحضان المرأة التي يُحب، يا له من حلم ويا لها من خيانة تسري في تيارات هذا البحر، كان كل ما أفكر به "لماذا لا يقتله البحر وينهي هذه التراجيديا المجحفة؟".

العلاقة مع البحر تراكميّة ولا يستطيع أي منّا تكوينها وليس كلّ من سكنوا الساحل امتلكوا امتيازاته خصوصاً في مدينة مثل غزّة التي وصفها صديق آخر بأنها
العلاقة مع البحر تراكميّة ولا يستطيع أي منّا تكوينها وليس كلّ من سكنوا الساحل امتلكوا امتيازاته خصوصاً في مدينة مثل غزّة التي وصفها صديق آخر بأنها "لم تأخذ من الساحل إلا رطوبته".

"لا جدوى مما لا حدس عندك بوجوده" كم يبدو الأمر سخيفاً عندما يتعلّق موقف بتفسير شيء ما حول البحر، هذا الشيء الذي لا نفهمه وإن كنّا ندّعي العكس. ذات مرة علّق صديق لم ير البحر في حياته متهكماً "كيف برزت أسطورة شكوى الهمّ إلى البحر، أي كيف يمكن لفرد أن يرتاح بمجرد حديثه مع البحر وهل يحدث هذا فعلا؟ لا أصدق". كنت أحتاج إلى معجزة كي أصف معنى البحر لشخص لم يره، ومن هنا بدأت محاولاً تفسير أمر أنا متأكد من أنه لن يُفهم، ولكن هكذا يبدو على المقهورين دوماً تفسير البديهي.

لا يستطيع المرء الوصول إلى الحالة التي يستطيع فيها الجلوس مع البحر وكأنه في أشد أماكنه ارتياحاً سوى بعد المرور بثلاثة مراحل على الأقل. إن العلاقة مع البحر تراكميّة ولا يستطيع أي منّا تكوينها وليس كلّ من سكنوا الساحل امتلكوا امتيازاته خصوصاً في مدينة مثل غزّة التي وصفها صديق آخر بأنها "لم تأخذ من الساحل إلا رطوبته".

فيما يبدو البحر لمن لا يفقهه مجموعة لا متناهية من الأمواج تتلاطم بعنفوان قبل أن تخفت قوتها وتتضاءل حين تباشر الاحتكاك برمال الشاطئ، فإنه يُخفي وراءَه فلسفة كاملة، يحتاج المرء في أولى مراحل بناء علاقة متينة مع البحر إلى الخوف؛ نعم الخوف من تلك المياه، وهو أمر صعب التحقق لمن يفتقد للاحتكاك اليومي مع هذا الجسد الأزرق الممتد إلى ما لا نهاية.

أن تكون صغيراً في مواجهة البحر هو أن تدرك في لحظة عابرة كم هي قادرة تلك المياه على ابتلاعك واقتلاعك من أرضك ورميك على مشارف بلاد أخرى تتكلم بلغة لن يفيدك تعلمها على أيّ حال طالما أنك بت تتكلم بلغة واحدة وهي لغة الأموات. إن لم تُصَب في يوم من الأيام بالذعر من هذا البحر الذي يصفونه على التلفاز بأنه مكان للاستجمام وتستخدمه فيروز في وصف عظمة حبّها "كبر البحر بحبك"، فإنك على الأرجح لن تفهم البحر أبداً ولن تستطيع التكلّم معه. يخاف المرء من غامض الأشياء، وهذا الكُحليّ الواسع يجبر من يقف أمامه على التسليم بقدرته، والخضوع لقوته، وهل من المعقول أن يشكو الإنسان حاله لمن هو ضعيف أصلاً؟

undefined

"أنا بعشق البحر، زيّك يا حبيبي حنون، وساعات زيّك مجنون، ومهاجر ومسافر.. وساعات زيّك حيران، وساعات زيّك زعلان وساعات مليان بالصمت.. أنا بعشق البحر". في ذكرى بعيدة كنّا على البحر أربعة، بتنا ليلة اعتدنا على تكرارها، نشوي اللحم ونغني، نتسامر ونلعب، وفي الصباح، حين تكون المياه باردة ومنعشة، والأسماك وقعت في شباك الصيادين، كان يحلو لنا السباحة. كنّا أربعة على وشك الزيادة، حين كاد الموت أن يكون خامساً لأربعة فتيان لم يتعلموا بعد الخوف من بحرهم، ولن يتعلموا أبداً معنى النسيان.

كان رابعنا مجازفاً واستعراضياً، يهوى كسر الحواجز ولكن كان كسر الأمواج له أسبق. غاب بعيداً وكنّا ننادي عليه حين سمعنا أحد المنقذين من البرج البحري القريب، انتبه من غفلته وصار ينادي عبر مكبر الصوت، كنّا نكذّب أنفسنا ونقول لابد وأنه يستمع، ولكن البحر على غير أي مادة أخرى، لا يصدّ الصوت ولكن يبتلعه.

شهد ذلك الصباح ولادة أوّل بطل في طفولتي، وأوّل خوفي من البحر حين هبّ المنقذ متحدياً كل التيارات ومتجاوزاً كل السرعات للوصول إلى الصديق المفقود على مدّ البصر. وصل إليه وأحضره وحين رماه على رمال الشاطئ كان كمن فارق الحياة. لاحظ المنقذ نظراتنا وبادر بطمأنتنا بكلمات سريعة "لا تقلقوا هلقيت رح يصحى" وأخذ يسعفه حتى تنفّس، ومع كل دفقة هواء كان يسحبها كنّا نرى البحر يكبر أكثر فأكثر حتى صار لوحاً صلباً عصياً على أيّ تفسير.

"كُنت أرى البحر بعينيّ الطفل دائماً، ولا مرّة جرّبتُ فيها أن أرى الطفلَ في عيونِ البحر". كانت مرحلة الأسئلة، والكثير من التأمل، وهي الخطوة التي تلت الخوف مباشرة، كان التأمل ضرورياً كخطوة انتقاليّة تحملنا من صدمتنا إلى موقع جديد لا كلام فيه ولكن "تواصل" وهي المرحلة الثالثة. يبدأ هذا المجهول بالتفكك أمامك، الصيادون الذين يغزونه ليلاً ويعودون فجراً يثبتون أن هذا البحر خيرهُ لا ينضب، فما الذي أدركه الصيّاد ولم أدركه أنا حتى الآن؟

في هذه الأثناء، لا بدّ وأن مراكباً تائهة في عرض هذه المياه، تبحث عن وجهتها وسط قسوة الرياح تحت وجه الشمس، أحد الركاب، ربما، أصابه دوار البحر فيسبب الذعر لمن حوله، هل هم مهاجرون مثلاً، أم مجرد هواة أو ربما أتوا للاستجمام فحسب، هل يرهق البحر نفسه بهذه الأسئلة أصلاً أم أنها أسئلتنا نحن من نقف على الشاطئ؟

صيادون يقبعون الآن في أقبية التحقيق في عسقلان بعد أن اعتقلهم الاحتلال في عرض البحر، وبحر عسقلان المحتلّة تصله المياه العادمة من غزّة
صيادون يقبعون الآن في أقبية التحقيق في عسقلان بعد أن اعتقلهم الاحتلال في عرض البحر، وبحر عسقلان المحتلّة تصله المياه العادمة من غزّة "حرب المجاري مستمرة" يغرّد أحد الأصدقاء مازحاً.

في غزّة كان الموت محتاراً، كيف سيكون له دور في ظل غياب الحرب، لم يشبع بعد، نهم لا يحده حدود لاقتلاع الآمنين من جذورهم. كان الغرق أبسط طرقه، كل يوم هناك من يغرق في بحر غزّة، هذا البحر الذي لا يسمح لأحد بتجاوز مسافة ثلاثة ميل فيه، يستغل كل ليتر منه في سلب زوّاره من أهاليهم.

المياه ملوثّة لدرجة سٌجلت فيها خلال الأسبوع الماضي أوّل حالة وفاة بسبب المياه العادمة في البحر، قبل بدء الصيف كانت التحذيرات على كل المواقع الالكترونية "لا تسبحوا في البحر" هذا البحر الذي يحسدكم عليه الكثيرون في الضفة الغربيّة، لم يعد بإمكانكم دخوله.

صيادون يقبعون الآن في أقبية التحقيق في عسقلان بعد أن اعتقلهم الاحتلال في عرض البحر، وبحر عسقلان المحتلّة تصله المياه العادمة من غزّة "حرب المجاري مستمرة" يغرّد أحد الأصدقاء مازحاً. سألت رفيقي في عزلتي هذه "عندما يُذكر اسم البحر، ماذا تتذكر؟" وجهتُ له السؤال وأنا أعلم أنه لم يغادر غزّة منذ مدة طويلة جداً ولكنني أعلم أيضاً أن البحر غاب عن تفاصيل يومه ولم يعد بالحضور الذي كان عليه قديماً.

"العرق، أتذكّر العرق والرمال، وأكون سعيداً عندما أعرق على شاطئ البحر". من الصحيح أننا لم نعد أوفياء للبحر كما كنّا، فاليوم تقتصر استخداماته على صبّ المياه العادمة فيه بدلاً من صبّها على رؤوسنا إضافة إلى إلقاء الصواريخ عليه حين تنوي المقاومة تجريب صاروخ جديد لها، ولكننا لا نزال نحب هذا البحر، ونأمل في يوم من الأيام أن نستخدمه مجدداً بنفس الطريقة التي استخدمناه فيها في "زيكيم" وعدم الاقتصار على استقبال المتضامنين من خلاله، أن يتحقق حلم صار أبعد ما يكون على التطبيق بأن يكون لنا ميناء يتسع للجميع وأن يكون لنا شاطئ رحيم، لا يقتل أبناءه، ولا يجعلهم يتساءلون "لماذا يقتلنا البحر؟" وهم الذين خافوه وتأمّلوه.. وتواصلوا معه في كل طريقة ممكنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.