كثيرة هي الأمنيات التي تسكن قلوبنا ونسعى جاهدين لأن تلامس واقعنا، فما حياتنا سوى محاولاتٍ لترى بعض أمنياتنا النور أو يخرج بعضها من صندوق الأحلام إلى فسحة النور فتصبح جزءاً من حياتنا وركناً من تفاصيل عالمنا الصعب والقاسي والمتشابك.
يقول الروائي الروسي دوستويفسكي "ما أسعد الذين لا يملكون شيئا يستحق أن يوصدوا عليه الأبواب بالأقفال"، وكاتب مثله يعلم أن ما يقصد هنا ليست بالتفاصيل المادية وحسب بل هو يعني أولئك الذين لم تمتلئ جرة أمنياتهم بالكثير فهم لا يملكون من الأحلام أصعبها بل هم يواجهون الحياة بواقعيتها وعواصفها ومزاجها سلاحهم الشجاعة والبساطة وما أندرهم، قلة أولئك القادرين على الاستلقاء تحت أشرعة السفينة عندما تشتد العاصفة واثقين بأنفسهم وواثقين بالطبيعة تُسيّر مركبهم نحو وجهةً جديدة وربما بعيدة. بينما يقف أكثرنا ليعدل الأشرعة أو ربما يجدف في قارب النجاة الصغير أو في أضعف المواقف يصرخ طالباً النجاة، ربما لأمنية صغيرة ملأته يودّ العودة على أمل أن تصبح يوماً حقيقة جميلة.
نعرف جميعنا رائعة الكاتب ارنست همنغواي (العجوز والبحر) والتي هي كما نعرفها ترمز إلى صراع الإنسان مع قوى الطبيعة لكن ألم نلاحظ أن الصياد العجوز سنتياغو، والذي أمضى أياماً طوال يحاول أن يصطاد سمكة ولم يحالفه الحظ إلا بعد مدة فوجد سمكته المنشودة وظل متمسكاً بها وهو يعلم أنها ستهلكه وفعلاً هلك في النهاية- لم تكن هذه السمكة له سوى أمنية ظلّ مخلصاً لها باحثاً ومنتظراً العثور عليها إلى أن وجدها فهلك معها، وما نحن سوى (سنتياغو) آخر لنا أمانينا وللحياة ظروفها.
أما في رائعة باولو كويلو (الخيميائي) فالراعي سنتياغو سلك طريقاً طويلاً بدأه من إسبانيا ليصل الى كنزه في مصر في رحلة طويلة شاقة مليئة بالعقبات والصعاب والتي جعل من كل عقبة منها قوة له ولم يثنيه شيء عن الاستمرار في رحلته بل لم يستسلم أبداً! سنتياغو هنا جعل من الكون رفيقا له ودليلاً له في أحلامه، وهو اتخذ من أحلامه القوة عندما أخبره أحدهم أن لكل منا (أسطورته الشخصية) وهي التي تولد بداخله الرغبة لتكون له رسالته في هذا العالم، نحن أيضا نشبه (سنتياغو) غير أننا ربما لم نكتشف أنفسنا بعد.وهنا يقول باولو كويلو "لا يستطيع الإنسان مطلقاً أن يتوقف عن الحلم، الحلم غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء الجسم. نرى غالبا خلال وجودنا أحلامنا تخيب، ورغباتنا تحبط، لكن يجب الاستمرار في الحلم وإلا ماتت الروح فينا".
أولئك الذين يؤمنون بالحلول السريعة لن يتذوقوا جمال المحاولة، وغالباً السعي وراء الأمنيات أكثر جمالاً من الأمنيات ذاتها |
رويت لطفلي مرة قصة المصباح السحري، كان يستمع بنهم وتلمع عيناه كانت فكرة المصباح السحري لم تخطر على باله مسبقاً لم يكن حينها يعي فكرة المعجزات ربما لأن الأطفال اهتماماتهم أبسط من أن يلزم لها أي آداةٍ سحرية لتجعل الخيال واقعاً على عكسنا نحن الكبار، نهزم بسرعة فنبدأ البحث عن حلول خيالية تغير الواقع أو تغيرنا كي نصبح أكثر قدرة على البقاء، نحلم بتلك اللحظة السحرية التي تغير كل شيء، إما لنعود للوراء فنتجنب الوقوع في هوة بعض القرارات التي غيرت حياتنا أو لنسرع الزمن فيصبح المستقبل أقرب وأكثر رؤية لنا. وما رغبتنا بالمصباح السحري سوى ضعف وعجز منا، نحن نستسلم بسرعة ونخاف، نحن لا نؤمن بقضاء الله وقدره ولا نؤمن بحكمته في خلقه، تستدرجنا أمانينا فنركض خلفها حالمين بالمصباح السحري أو الخاتم السحري والجني الذي يحقق لنا أمانينا وننسى أنفسنا وحجم القوة التي نملكها لنكون نحن قوة التغيير في حياتنا.
نعم أعلم أن الكثير لا نقدر عليه أحياناً أو يعترينا اليأس فنحتاج لمسات السحر في حياتنا ولكن لو امتلك كلٌّ منا مصباحه السحري لفقدت الحياة بهجتها ومغامرتها ولأصبحنا اتكاليين كسالى وربما نزغ الشّر في نفوسنا فصيّرنا مارد الأحلام ليؤذي غيرنا، ولما كان هنالك جهدٌ ولا مغامرةٌ في تفاصيل حياتنا، عندما يحقق غيرنا أحلامنا حينها لن نقدر قيمة تلك الأحلام لأننا لم نتعب لأجلها ولم نناضل لنيلها بل أتتنا بسهولة الأمر فسنتفقد لذتها وتفقد أرواحنا جمال الإحساس بها.
الحياة واقع ورحلةٌ متشابكةٌ دروبها، والرضا مفتاح التقدم بها نحن نعمل ونعمل ونرضى بأمر الله، أولئك الذين يؤمنون بالحلول السريعة لن يتذوقوا جمال المحاولة، وغالباً السعي وراء الأمنيات أكثر جمالاً من الأمنيات ذاتها، تقول هيلين كيلر "الحياة إما أن تكون مغامرة جريئة.. أو لا شيء".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.