
في هذه الساعات الثلاث، عليك أن تمتع عينيك بضوء المصابيح الكهربائية، والتي ستنيرها دون وعي حتى لو كنت في وضح النهار، ذلك أنك لن تراها مجدداً قبل الغد، إلا لو كنت من أولئك المحظوظين الذين يملكون (الليدات) التي تعمل على البطارية، والتي بإمكانك إضاءتها في الليل، لكن هذا يعني أن عليك أن تقوم بشحن البطارية أيضاً في هذه الساعات الثلاثة، وتقنين استخدامها لأن شحنها لثلاث ساعات لن يكفي استخدامك لها باقي اليوم!
أسمع الآن صوت الأطفال في الشارع يهتفون "إِجَتْ الكهربا"، ما يعني أن عليّ الآن أن أسرع لإنهاء قائمة المهام التي يتوجب عليَّ القيام بها قبل أن تنتهي الساعات الثلاث. |
أما بالنسبة للتلفاز فلا أضمن لك أنك ستستطيع مشاهدته خلال هذه السويعات، ليس فقط لأن الصغار سيحتلونه، وسيمنعونك من ذلك، بل لأنك أنت لن تستطيع تحمُّل مشاهدته، لن تستطيع تحمل رؤية أحدهم يتحدث عبر الشاشة، من استوديو مُكَيَّف، ومُضاء، خرج لتوه من سيارته المُكيَّفة المليئة بالوقود، والتي أوصلته لتوه من منزله حيث كان يجلس وأولاده وزوجته تحت التكييف أيضاً، معبراً عن حزنه الشديد وتعاطفه "الصادق" مع أهل القطاع، داعياً إياهم للصبر على الخطوات الصعبة والإجراءات العقابية التي اتخذها بحقهم هو وباقي "قُوَّاد" المشروع الوطني الفلسطيني، والتي ترمي إلى معاقبة الخارجين عن شرعية قيادة هذا المشروع "الوطني الفلسطيني" ، المتمردين على أهدافه، والتي يبدوا أنها تحولت من السعي الى "تحقيق" حقوق الشعب، إلى "استخدامها" كأداة ضغط عليه لتحقيق أهداف جديدة.
أما الثلاجة فهي الآن مجرد خزانة بسلك كهربائي لا قيمة له، بينما الغسالة تستخدم كطاولة لركن "الكراكيع" فوقها، وكذلك باقي الأجهزة الكهربائية التي لم يعد لها أية فائدة، مما اضطرنا لاستبدالها، إما بالوسائل البدائية القديمة، أو بالتكيف مع الوضع الجديد وابتكار طرق جديدة للتغلب عليه.
الحياة في غزة يا صديقي حياة مختلفة تماماً، حياة من نوع آخر، لا تعرفونها أنتم في باقي الكوكب، نعم غزة متمردة على عالمكم، صحيح أنه لم يكن خيارها تماماً، صحيح أنها ترفضه كانت ولا زالت، وأنها تتمنى لو كانت مدينة عادية ينعم أهلها بالسلام والراحة، لا يخشى أحدهم أن ينجوَ أطفاله من الموت في فصل الصيف من شدة الحرارة دون أن يجد ما يخفف عنه شيئاً من الحر، ولو شربة ماء مثلَّجَة، ليموت في الشتاء من شدة البرد القارص دون مدفئة تقيه البرد، هي فعلاً لم تتمنَ ذلك ولم تطلبه، وحاولت وتحاول تغييره، هي تعرف يا صديقي أن هذا الطريق الذي دخلته، أو بالأحرى أُدخِلَته هو طريق وعر وقاسٍ جداً، مظلم تقريباً، ينتهي بها إلى الموت في أحسن الأحوال، لكنها رغم أنها تدرك ذلك تماماً اختارت بعد أن عجزت عن تغييره، أن تخوضه كله، ولكن بطريقتها هي، اختارت أن تتمرد عليه.
ولما استطعت أن أفتح حاسوبي لأكتب وأخيراً عن ذكرى عدوان عام 2014، لم أكتب عنها أي شيء أيضاً، فقد وجدت نفسي قد كتبت هذا. نعم، يا لِبؤسنا، يبدو أنهم قد نجحوا حقاً في تحويل اهتماماتنا وتبديلها، يبدو فعلاً أن الماء والكهرباء قد أضحت الآن أسمى أمانينا!
أسمع الآن صوت الأطفال في الشارع يهتفون "إِجَتْ الكهربا"، ما يعني أن عليّ الآن أن أسرع لإنهاء قائمة المهام التي يتوجب عليَّ القيام بها قبل أن تنتهي الساعات الثلاث.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.