مضى يومين أو ثلاث وأنا أقلب الأمور وأحاول وضعها في نصابها الصحيح قبل أن أشرع في كتابة موضوع لطالما أرق ذهني من كثرة التفكير فيه، ففي ظل مجتمعات لا تعرف للتعبير ولا للآراء معنى وخاصة إن كنت طالب علم لا تملك إلا أن تحافظ على الفتات المتبقي من حقك، بقيت هذه الكلمات دفينة منذ أن أصبحت أنا عضواً في هذا المجتمع الضحل المسمى "الجامعة"، فلماذا تخرج الكلمات إن لم تجد لها طريقاً إلى الآذان؟ بل لماذا نعيرها اهتماماً وندعها تسلب ما تبقى لدينا من قوة وسعادة وابتسامة؟ فهذه الكلمات إن خرجت كما الآن فإنها تفتح فوهة بركان مضى عليه الكثير واعتاد الناس على سكونه وظنوا أنه اندثر، ولكنه في الحقيقة كان يجمع شتات الحمم حتى إذا انبثقت ما عرفت شيئا إلا وداهمته.
ها أنا اليوم على مشارف السنة الخامسة في كلية الطب، وقد كانت سنتي الرابعة ذاخرة بالعناوين التي لأجلها أكتب ما تقرأه أيها المتابع، صدقني إن قلت لك أني لا أعرف أستاذاً جامعياً ممن قابلناهم معرفة ودية ، فكل ما نعرفهم به إن كانوا صالحين علما قد ورثناه عنهم ، أو أسلوباً همجياً ووجهاً مكفهراً وسلطة ليس لها أساس إن كانوا غير ذلك .
ألست مواكباً للتقدم التكنولوجي الحديث وتعلم أن العلم بات بكبسة زر بل بلمسة على الشاشات الذكية لأدخل أمراً بتحميل الكتب والمجلدات العلمية التي تثري معرفتي فلا أحتاج لدرسك! |
دعني أستثني الصنف الأول من الحديث فليس من عادتي أن أسلك مسلك المجتمع في الجمع بين الأبيض والأسود، والتسوية بين السماء والأرض، فالصنف الأول نشكر له علمه الذي قدمه لنا على طبق من ذهب وإن لم يجمعنا الود وعلاقة الأبوية مع من هم في أعمار والدينا، أو علاقة الأخوية مع من هم أصغر سناً، وذلك في إطار مجتمع يرفض هذا المشهد بدعوى أنه شبهة خطيرة في حق هذا الأستاذ كما أخبرني أحدهم سابقاً، ألم أقل لك إن الأمر يؤرقني منذ زمن! فنرى هذا الأستاذ ينأى بنفسه عن هذا ويقدم ما لديه من علم ويرحل دونما إنذار .
لطالما تمنيت أن تمتد بنا السنون في علاقة ودية جميلة وإن انتهى الدور الأول وهو تلقين العلم، فأمثال هؤلاء تود أن تسطر رحلة لا تنتهي في علاقتك بهم، لما ترى من جمال أرواحهم ومعسول كلامهم ولكن هيهات هيهات، فالقوالب المجتمعية لا ترحم .
دعني أتفرغ الآن للصنف الثاني، وأرجو أن تكفي حروف مدونتي ما يعتلي فؤادي لأرتاح.عن ماذا أتحدث أولاً؟ عن هذا الذي يغضبه عدد الحضور القليل! أم عن ذاك الذي ينفجر غاضباً في الهاتف إن تعدى الطالب على خصوصيته وحصل على رقم هاتفه من موقع الجامعة المشاع للجميع، وذلك لأننا لا نراه البتة في الجامعة ويكون لقاؤنا الأول يوم الاختبار، أم عن هذا الذي لا يقبل أن يسألك فلا تجيب، ويهددك بالرسوب إن لم تجب .
أما الأول فلم أستطع حقا الوصول إلى فضائية فكره، لماذا يطرب بالحضور الكثيف ويجن جنونه إن قل؟ ألا تدري أيها الفاضل أن لي من الظروف الحياتية التي قد تحول بيني وبين محاضرتك فلا أستطيع لها حضوراً؟ وخصوصاً إن كنت من أصحاب الفقر العلمي والفتات المعرفي الذي لا يستحق السماع، فوقتي كدارس علم ثمين لدرجة التفريط في درسك.
ألست مواكباً للتقدم التكنولوجي الحديث وتعلم أن العلم بات بكبسة زر بل بلمسة على الشاشات الذكية لأدخل أمراً بتحميل الكتب والمجلدات العلمية التي تثري معرفتي فلا أحتاج لدرسك، ألا تعلم أنه ربما فاتني وقت النوم الطبيعي ليلاً وأرقت جفوني لأجل العلم فلم أستطع الحضور صباحاً؟ أليس لي عندك عذر غير أني ألهو وألعب كما تظن أنت فتفقد أعصابك وتنادي بورقة لتكتب فيها من حضر بل لا تكتفي بذلك، ولكنك تتعداه الى التهديد والوعيد بأسئلة هلامية لم نسمع عنها في ماضينا أو حاضرنا في الاختبار.
اجعل الطالب مشروعك الأخروي الذي تقابل الله به، اجعله ثقلاً في ميزان حسناتك، اجعله نفسك التي تكمل إن قضت نفسك أنت نحبها في هذه الدنيا، تلك عدة وذخيرة تستحق أن تعمل لأجلها. |
يا سيدي لا أدري من أعطاك هذه السلطة! ولكنك تجاوزت كثيراً وتعديت حقوقنا ولن نمرر نحن لك موقفاً كهذا، صدقني إن الظلم ظلمات وكربتي اليوم كطالبة تنتظر نتيجة مرضية ستكون عليك كربات وحسرات. بفعلك الشنيع وجبروتك الذي ما كنت تدرك عواقبه بت اليوم حديثي ووالداي مع الله، لما لا وقد كدت باختبارك أن تكسر فينا الطموح وتنسينا الأمل لولا أن الله أحيا قلوبنا وتداركنا المحنة حينها .
كل ذلك لأني لم أحضر لأنهل من علمك الوفير، أرجو أن يصدقني القارئ ولا يحسبني مبالغة. وآخر لم يصدق أن تلميذه يتصل به لأجل السؤال المختصر لا لأجل أن يخطط للقاء رومانسي بعد منتصف الليل، فانهال يجلده بالكلام العكر ولا أدري لماذا!
آه لو يعلم هؤلاء أنهم محاسبون، لو يعلم هؤلاء أنهم ينالون منا الدعاء بما قدمت أيديهم، لو يعلمون أننا صدقات جارية لهم بعد مماتهم، ولما لا وكلنا رأى ذلك المشهد الذي لا ينسى عندما وقف تلاميذ المرحلة المتوسطة صفين متقابلين من مسقط رأس أستاذهم إلى مقبرته عندما وافته المنية، ليشكلوا ممراً لمرور النعش الطيب الذي تفوح منه سيرته العطرة . ما بالك ان كبر هؤلاء التلاميذ، ماذا هم فاعلون؟ إن الحيوان لا ينسى من أطعمه أو من أسدى إليه معروفا.
فكيف بطالب إن عددته نظير ولدك وأخلصت له في عملك، محال أن ينساك ولكن من يفقه! اجعله مشروعك الأخروي الذي تقابل الله به، اجعله ثقلاً في ميزان حسناتك، اجعله نفسك التي تكمل إن قضت نفسك أنت نحبها في هذه الدنيا، تلك عدة وذخيرة تستحق أن تعمل لأجلها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.