قد نشأتً على فكرة أن إتقان الخط العربي، بأنماطه من الكوفي والرقعة والنسخ والفارسي، خير ما يصنعه المرء. ومضيت شوطاً فامتهنت كتابة العناوين في بعض الصحف، ولم أقصر في ارتقاء سلَّمٍ لكتابة يافطة معلقة فوق دكان. ظننت الخط العربي فرض عين، فإذا هو فرض كفاية. وجاءت الحروف الجاهزة "اللتراست"، ثم هجم الحاسوب، فصار كل شخص خطاطاً.
كان الخطاط في الماضي يشقى طول عمره كي يجود صنعته. كان في تركيا خطاط اسمه الحافظ عثمان (كتب بقلمه 25 مصحفاً) وكان يقول: "عندما أفتح مصحفي أعرف الورقات التي كتبتها يوم السبت. فهي أقل جودة من غيرها". ذلك أنه يكون قد استراح يوم الجمعة فيأتي عليه السبت وقد صدئت مهارته بعض الصدأ. فتخيلوا هذا الفن المعقد الذي يحتاج إلى مران بلا انقطاع طول العمر. بعد أن كان العالم العربي محتاجاً إلى نصف مليون خطاط أصبح محتاجاً إلى عشرة فنانين يصممون الحروف للحاسوب.

آلاف الساعات التي أنفقها كاتب هذه السطور في التدرب على أنماط الخط العربي كان يمكن ملؤها بما هو خير من ذلك النشاط الذي جعله الزمن عقيماً. ها أنا قاعد أندم. وقد بدأت أندم قبل بضع عشرات من السنين. بدأت رحلتي مع الندم وأنا في الثانية والعشرين من العمر. وبدأت في لحظة معينة أذكرها جيداً. كنت أعمل خطاطاً في وزارة الدفاع الكويتية، وزرت خطاطاً في مشغله. رأيته قد علق على الجدار آيات خطَّها بقلمه، فإذا الرجل ضعيف المهارة مرتجف القلم. ورأيته يصنع لافتة ضخمة: صندوق ألومنيوم بداخله أضواء النيون، وعلى واجهته لوح بلاستيك أبيض عليه اسم الدكان. وماذا عن الخط في اليافطة؟ الخط مكتوب بحرف "اللودلو" الجاهز. وما كان على صاحبنا إلا أن يكبر الحروف ويرصفها. انتهت مهنة الخطاط القديمة. صار غير الخطاط خطاطاً.. صار مجرد راصف للحروف الجاهزة. ماتت المهنة.
وماتت مهنة أبي. قد كان خياطاً. وقد رفض أن يعلمني مهنته قائلاً: "هجم الجاهز، والمهنة إلى انقراض". وانقرضت، وتحول من بقي من الخياطين إلى عمال "تقصير وتطويل". العقل البشري يمكنه أن يضم معلومات ومهارات بلا حصر. لكن العمر قصير، ومن الخير للمرء أن يتعلم مهنة المستقبل لا مهنة الماضي. والمعلومات في هذه الدنيا كثيرة، فبماذا نحشو في عقول أطفالنا؟ وكلمة "أطفالنا" في الجملة السابقة مهمة جداً. فالمعلومة التي تدخل عقل الطفل تصبح طريقاً. المعلومة والمهارة في عقل الطفل تصنع له عقلاً، فأما عقل البالغ فهو يراكم فوق ذلك الأساس. وأما عقل الشيخ (هذا إن بلغت بك الجرأة أن تسألني هذا السؤال لأنني قطعت الستين) فهو كالغربال: اسكب فيه ما شئت من ماء أو من عصير برتقال.. ولن يبقى فيه شيء.
فلنعقِد، أنا وأنت أيها القارئ، اجتماعاً صغيراً على هذه الأسطر التي تقرأها لنحدد أفضل المعلومات والمهارات التي نريد تزويد أطفالنا وشبابنا بها. هل نبدأ بحقنهم في سن باكرة بمهارات استخدام الحاسوب؟ هذا شيء يكتسبونه دون أن يشاوروا أحداً. هل نحقن عقولهم بتاريخ السومريين والمغول والأمويين والعباسيين والمماليك؟ هذه بضاعة بائرة في سوق العمل التي سيدخلونها بعد بضع سنين. هل نعلمهم فلسفة أرسطو والفارابي وكانط كما يفعلون في أقسام الفلسفة في الجامعات؟ هذا شيء رديء حقاً، للطفل وللبالغ. ففلسفة كل فيلسوف نتاج لعصره، والتاريخ خير من الفلسفة. فماذا نعلمهم إذن؟

ألا يكفي أن نتركهم يلعبون؟ ألا يكفي أن نعلمهم -وهم يلعبون- القراءة والكتابة وبعض الحساب؟ يكفي وزيادة. الطفل يتعلم بيديه لا بعقله. يتعلم وهو يصنع الأشياء، أو يفككها. ومهن المستقبل في علم الغيب. ضع في بيتك كتباً وقصصاً مصورة. الطفل الذي خرج من بيت فيه كتب يختلف عن الطفل الذي خرج من بيتٍ قبرٍ خال من الكتب. وأعط ولدك نقوداً لكي يشتري وهو عائد من المدرسة كيلو عدساً مجروشاً وكيلو بصلاً وربع كيلو كموناً وربطة خبز، وحلوى له. وحاسبه عندما يعود. هذا أحسن من أحسن درس في المبادرة وفي الاقتصاد وفي التعامل مع الناس.. وفي الحساب.
اطلبي من ابنتك الصغيرة أن تستفسر من اليوتيوب عن طريقة صنع حساء العدس، وطريقة سلق الأرز، ولتقف معك في المطبخ، لا لكي تساعد في غسل الأطباق بل لكي تشارك، ففي مرة قادمة ستطبخ بنفسها. يداها ستعلِّمانها الطبخ. ما يمكننا ترسيخه في عقول أطفالنا هو الأسس فقط: الجرأة، والمبادرة، والتعامل مع الناس، والاعتماد على الذات، والخلق الحسن.
فائدة المدارس أنها تحبس الأطفال نصف نهار حتى نتمكن من مزاولة أعمالنا، ولو تركتهم المدارس يرسمون ويلعبون ويغنون لأصبحت مفيدة، لكنها لا تتركهم، فتباً للمدارس. وفائدة الجامعات.. ها أنذا أتوقف عن الكتابة.. فائدة الجامعات.. فائدة الجامعات.. مم.. هل لها فائدة؟ بشكلها الحالي لا فائدة لها. فإن تركت للطلبة مساحة لممارسة السياسة الطلابية فهذا نافع، وهي لا تترك، ولو تركت للطلبة مساحة لممارسة الغناء والرسم والرقص والقراءة الحرة فهذا نافع، وقلما تترك. الجامعات مثل ألعاب أولادك القديمة. يغادر الأولاد البيت ويتزوجون. وتبقى حضرتك محتفظاً بألعابهم القديمة في مكان معتم من البيت. هذه أشياء لا قيمة لها.. جرب أن تعطي حفيدك لعبة قديمة كانت لأمه، وسيقول لك يع. الجامعات في بلدان كثيرة يع.