شعار قسم مدونات

كوب قسوة

blogs كوب قهوة

عن هؤلاء الذين لا يرتشفون القهوة كل صباح ولا يهتمون لسماع تلك المقاطع الموسيقية الهادئة، ولا يملكون شُرفات تزينها الورود ولا يكتبون ما يحدث معهم يومياً كل مساء، عن هؤلاء الغرباء الذين ملأوا مقاعدهم غياباً، عن هؤلاء الضائعون في دوامة الحياة المقصيون من أحداثها أكتب.

لطالما أحببت من يلتزمون الصمت دائما فلا تعرف إن كانوا غارقين في الشيء لدرجة أنهم لا يبالون بالعالم أم أنهم لا يلقون له بالاً من الأساس، هؤلاء الذين لا نعرف مكنوناتهم منفصلين عن العالم تمام الانفصال يعودون بين حين وآخر يثبتون وجودهم بإمضاء ثم يعودون إلى عالمهم مرة أخرى تاركيننا حيارى في أمرنا.

إذا كانت قلوب هؤلاء خاوية وبارده حقاً، لماذا إذن لا زالت تتألم، وما دامت قد سلمت واستسلمت لما لا زالت تأن وتنبض بقوة، تلك القلوب الهشة البريئة التي تحملت كثيرا فأصبحت تخاف من كل جديد، اخترقتها أعيرة الماضي بحرفيه. جعلتها تنكر الاقتراب. ولشدة خوفها من التعلق، تتعلق. ولشدة خوفها من الفراق، تُفارق. ولشدة خوفها من الألم، تتألم. ولشدة ما تخيفها الهاوية تسقط فيها …

من أصعب اللحظات على المرء، تلك التي تعجز فيها الحروف عن وصف ما بداخله من مشاعر.. يسترسل في الحديث ويطيل الشرح ويكرر العبارات ويستفيض في الجُمل.. ولكن يبقى الشعور مختلفاً عن كلماته.. وتبقى الكلمات في حيرة من أمرها.. عاجزةً أمام فيض المشاعر.

شعور سيء أن تكتشف مؤخرًا أنك تعاملت دائمًا مع الأشباه. أشباه الأحبّاء، أشباه الأصدقاء، وأشباه البشر، لا شيء حقيقي وثابت في حصيلتك إلى الآن

أعرف أن الشعور الذي ينطفئ في المرة الأولى لا يحيا أبداً بذات اللهفة ولا ذات الكمال، مبتور إلى حد كبير.. إلى حد أن تشعر بفقده مدرك أنك لن تعيشه مرة أخرى، لذلك لا تحاول استعادة نغمة أطربتك.. فالسحر كامن في المفاجأة الأولى لا في النغمة ذاتها.. فإن أصررت فاسترجعها في خيالك فهو أصدق من التكرار.

عن تلك اللحظات، لحظات السقوط والانكسار التي أجُبرت على تجاوزها بهدوء، التى لم تأخذ حقها وبقيت نُدبها الدامية في قلبك تأبى الشفاء. عن كل اللحظات التي مررت بها سريعاً، فما كان منها سوى أن تلتصق بذيل ثوبك لتبقى ملازمة لك في كل حين. تلك اللحظات التي وجب عليك أن تقف لتسوي نزاعاتك وتنهى حساباتك القديمة معها لعلها تندمل، ولكنك استمريت بتجاهلها.

وأنا أيضاً كذلك فبعد كل الظنون التي ظننتها بنفسي بأنني لا أعوض وبالرغم من أنني إلى هذه اللحظة أبدو قوى جدا أمام الجميع، لكنني من الداخل لست مقتنعا أنني كذلك، ومع كل هذا العناء ما زالت لحظات الماضي تؤلمني، كيف يحدث كل هذا لي؟ وأبقى صامت. يبدو أننى لست قويا بما يكفي.

وأتعجب أنا الذي كنت مصمما على الحياة ولو حتى في مكان لا يتسع إلا لموطئ قدمي، ماذا حدث لي، ماذا فعلت بي الأيام! صحيح لازلت أُقاوِم، أُقاوِم السُقوط في دائرةٍ لا مَخرج مِنها، زاوية لا ضوء فيها، إنني أُقاوِم وأتعَثَّر، لَكنني أُقاوِم. ولكن هل تكفى المقاومة لأجل الحياة؟!

الآن أقف وسط هذا الكون، وعلى هذه الأرض، وبين كل هذه الحشود، ولكن أشعر بالوحدة، وحده مطلقة قاتلة، صدري أشبه بمقبرة قديمة منسية تحت أنقاض هذا العصر، لست هنا، ولا يوجد أحد هنا، شعور سيء أن تكتشف مؤخرًا أنك تعاملت دائمًا مع الأشباه. أشباه الأحبّاء، أشباه الأصدقاء، وأشباه البشر، لا شيء حقيقي وثابت في حصيلتك إلى الآن.

لابد أن هناك شيء عالق من الماضي لا زالت روحه تدب في جدار الفؤاد شيء لم ينتهي بعد، شيء ما جعل كل هذه الأمور تعود وتفرض نفسها من جديد، لعله هو سبب تلك القسوة والبرود. لعله سبب تلك الوحدة التي أشعر بها أنا وهؤلاء على رغم كل ما تُحيطنا من جموع.

 

هيا قف.. وأوقف كل شيء، ولأول مرة أدعوك أن تتحرر من هذا الحاضر المقيت وتعود للوراء كي تُشفى جرح الماضي الغائر.. فضمادك القاسي المزيف هذا ليس منوطاً بالشفاء، وكفى تمثيلاً وادعاء باطلاً بالقوة، فروحك المنكسرة لم تعد تحتمل جرح جديد يضاف إلى قائمة جراحاتها القاتلة، فصدقاً استمرارك في هذا العبث لن يحسم أي أمر، هيا القى نظرة وإلا سوف لن تجد نفسك مفراً من الانهيار والضياع وسيكون الانهيار مؤلم للغاية إذ إنها ستسقط على زجاجك المكسور، لذا عليك أن تُزيل هذا الحطام أولاً ثم _إذا أردت _أكمل البناء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.