شعار قسم مدونات

العُنصريّة وبَناتُها

blogs - العنصرية
كنتُ ذات يوم في سفر، عُدت منه بتجربة ثرّة و غزيرة؛ كان الأقارب والأصدقاء والمعارف كلما لقيتهم يسألونني عن تلك الرحلة والمنطقة، وأنا أجيبهم مبتهجاً وأحكي لهم عن جمالها وطبيعتها وترحاب أهلها وحفاوتهم.. أثناء تلك الأحاديث طرقت أذُناي بعض الكلمات والأوصاف عن أهل المنطقة التي سافرت إليها، وتكرر الأمر عدة مرات ومن عدة أشخاص.. كانت كلمات وأوصاف ذات طابع عنصري.. وكثيراً ما استفزتني لأرد أحياناً بما يقتضيه الموقف، وأغض الطرف أحياناً أخرى. تيقنت حينها أن العنصرية متجذرة في دواخلنا حتى دون شعور منا، وأنّ سكوتنا عنها هو عنصرية في حد ذاته.
تيقنت أيضاً أن السفر والاختلاط والتعرف على الشعوب والقبائل والجماعات يقودنا لإعادة النظر والتفكر في آرائنا وقناعاتنا ونظرتنا للحياة، فتنهزم جيوش التحيّز والعصبيّة التي طالما عسكرت في دواخلنا، وتنكسر عصا العنصريّة التي طالما حملناها ضد أناس وأفكار، ونكتشف ﺃﻥ كثيرين كانوا مخطئين ﻓﻲ رأيِهِم عنهم، ربّما بما فيهم أنا.

أول معصية في الكون كانت ذات أصل عنصري: (أنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).. هذه النظرة العنصرية من مخلوق النار تجاه مخلوق الطين جرَّته ليتفوّه بما قال، ويحمل مشاعر الحسد والعداوة والبغضاء تجاهه وتجاه ذريته؛ حتى طلباته كانت ذات غاية وهدف عنصري. تناسلت بعدها العنصرية وأنجبت "بنين وبنات" لم يختلفوا عنها كثيراً.. صارت العنصرية ليست في الأصل، فالأصل واحد "طين"، رغم أن البعض قد نسي ذلك. صارت العنصرية في اللون أسود وأبيض، بل أسود وأكثر سواداً، صارت في الجنس ذكر وأنثى، والعرق، والشكل، والنسب، والدين، والفكر، والحزب، والجماعة، والمنطقة، والمال، والسلطة، والزي، والرياضة… صارت العنصرية طرائق قِدَداً، تنخر في عظم حياتنا الهش، وتقتات من مائدة كراهيتنا.

عنوان هذا المقال في حد ذاته "عنصري"، دون قصد أو إدراك مني، لم أنتبه له إلا في نهاية السطور، وبعد أن تأملته عدة مرات، تساءلت لماذا "بناتها"؟!

تأمّل عالمنا اليوم وتصرُّفاتِه العنصرية، وقبلها تأمل ذاتك وحديثك وردود أفعالك تجاه البعض رغم أن الأحداث قد تكون متشابهة. شاهد نفسك وأنت تنظر إليهم نظرة ازدراء وترفض أن تصافح يدُه يدَك وتستاء عندما تتكئ يده على كتفِك.. تفكر في نفسك وأنت تحرمه من الاحترام والتقدير وتحتقر شخصيته.. تأمل نفسك وأنت ترفض زواج ابنتك من أحدهم فقط للونه أو جنسه.. تأمل لسانك وحاسبه عندما تهجو به جماعة وتقسو به عليهم.

أعتى دولة في العالم اليوم يحكُمها عنصريٌّ قحّ، وأقوى قارة في العالم تنزع عنها ثوب حضارتها رويداً رويداً لتصبح عارية كلما ازداد طالبوا الهجرة واللجوء إليها! دولٌ تُعذِّب طوائف كاملة لا لشيء سوى اختلافها عنهم في الدِّين، بل وتحْرِمُها حقَّها في الحياة.. حروبٌ تدور رحاها وتستعر نارها بوقود العنصرية.. دولٌ تنقسم شمالاً وجنوباً أو على وشك ذلك، كوريا والسودان واليمن وإسبانيا وغيرها، تأمَّلها جميعاً لتجد أنّ أصل المشكلة عنصريّ!

عنصريتنا المقيتة نجدها حتى داخل البلاد الصّغيرة الواحدة المُقسّمة.. فيمقُت شمالُنا جنوبنا، ويُبغض جنوبُنا شمالنا، ويحقد شرقُنا على غربنا، ويُعيِّر غربُنا شرقنا.. نَصِفْ ذلك الجنس بأكمله بالحماقة، وذاك الآخر بالبخل، وذاك الثالث بالهمجيّة، دون أن ننسى عنصرية اللون طبعا! نسينا أنّنا جميعاً بنو البشر نتشابه ونلتقي في رحم الإنسانية، التي نُهِينُها كل يوم حِين نُهين بعضَنا البعض، ونزدريها كل يوم حين يزدري بعضُنا البعض! نسينا أنّنا نستنشق نفس الهواء عديم اللون! وتجري فينا نفس الدماء حمراء اللون! ونحيا بالماء المُتكوّن من ذرات هيدروجين وأكسجين لا تفرق بيننا ولا تميز لوننا وجنسنا! نسينا أنّ اختلافنا لساناً ولوناً وشكلاً هو آية، وبديع في صنع الله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ). نسينا أنّ مقياس الإنسانيّة هو الذي ينبغي أن يسود في انتظار مقياس التقوى ليقوم يوم تقوم الساعة (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ).

العنصرية ما زالت تتناسل، وذريتها في ازديادٍ كل يوم، والواقع كل يوم يتعقد، وكل يوم نزداد تأكداً أننا بحاجة لتلك الرسالة السماوية التي جمعت بين أسود حبشيّ وأحمر رُوميّ، وآخت بين فارسيّ أعجميّ وقرشيّ عربيّ، رسالة تحمل في طيّاتها "ليس منّا من دعا إلى عصبيّة"، وتربي حامليها على "دعوها فإنها منتنة"، وتُذيع في منابرها "ألا لا ﻓَﻀْﻞَ ﻟِﻌَﺮَﺑِﻲٍّ ﻋَﻠَﻰ ﺃَﻋْﺠَﻤِﻲٍّ ولا ﻟِﻌَﺠَﻤِﻲٍّ ﻋَﻠَﻰ ﻋَﺮَﺑِﻲٍّ ﻭَلا ﻟِﺄَﺣْﻤَﺮَ ﻋَﻠَﻰ ﺃَﺳْﻮَﺩَ ولا ﺃَﺳْﻮَﺩَ ﻋَﻠَﻰ ﺃَﺣْﻤَﺮَ ﺇِﻟَّﺎ ﺑِﺎﻟﺘَّﻘْﻮَﻯ".

حتى عنوان هذا المقال في حد ذاته "عنصري"، دون قصد أو إدراك مني، لم أنتبه له إلا في نهاية السطور، وبعد أن تأملته عدة مرات، تساءلت لماذا "بناتها"؟! وقررت أن أصلحه الآن ليصير (العنصرية.. أبناؤُها وبَنَاتُها).

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



إعلان