شعار قسم مدونات

حصة البنت وحصة الصبي

مدونات - المرأة التونسية
 
فيما أنا أتابع الاخبار الواردة من تونس حول قانون يمنح المرأة حصة مساوية لحصة الرجل من الميراث، حضرتني حادثة شهدتها منذ بعض الوقت في قريتي، وعلمت بمحض الصدفة إنها تقليد شائع بين الأسر التي تملك أراض زراعية. تقليد علمت لاحقاً إنه ليس حكراً على الأرياف وإن كان راسخاً ومنتشراً أكثر فيها. كنت برفقة أمي في زيارة لأقارب لنا، وإذا بابنتهم التي تزوجت حديثاً تزورهم برفقة عريسها في ما يسمى بلغة العادات والتقاليد "ردة أجر".

وسط جلبة كبيرة وحركة مكوكية لصواني الضيافة، همهم العريس مرتين أو ثلاثة إيذاناً برغبته في الإدلاء بتصريح، فقال "ما أريده من عائلتكم الكريمة أخذته وأكثر". بدا صوته إذاعياً ومتعالياً عن الحضور كأنه خارج من ذلك المذياع المركون فوق جهاز التلفزيون ولا يلتقط إلا "إذاعة لندن" و"راديو مونتي كارلو", محتلاً بذلك صدر غرفة الجلوس وجزءاً من فضائها كمثل هذا الصهر العتيد..

تضاحكت العروس وقد علمت إنها المعنية بالأمر، واعتراها فخر بـ "كبرياء رجلها وعزة نفسه". فقد عرض والدها عليهما قطعة أرض صغيرة كهدية زواج، لكن الشاب سارع بالرفض.. بحسبما تقتضي الأعراف والأصول. فما طمع به على ما قال وكرر، لا سيما على مسامع أخوتها الشباب، و"البركة فيهم طبعاً"، هو النسب وليس الأرزاق والأموال.

لشدة تجذر العقلية البطريركية وسط النساء أنفسهن، قد تذهب الفتاة خطوة أبعد في الكرم ورحابة الصدر إذ تتنازل عن حصتها لأخت "كبرت ولم تتزوج".

انفض المجلس وخرج الجميع سعيداً راضياً. فمما كان متعارفاً عليه أن يعرض والد الفتاة بعضاً من حصتها من الميراث كـ "هدية"، وأن يرفضها الزوج في المقابل فيستعاض عنها بطقم مصاغ أو فناجين قهوة أو غيره من مستلزمات البيت، بحسب قدرة العائلات. أما أن يقبل الصهر حصة زوجته من ميراث عائلتها، فعيب ما بعده عيب.

وحتى أيامنا هذه لا يزال توريث الفتاة إن جرى منة من عائلتها وكرماً فائضاً من إخوتها حيالها، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بملكية أرض. وفي غياب قانون يضمن حقوق النساء، يحتكم للعادات والأعراف التي تجعل سلوكاً كذلك مسألة شائعة أكثر مما يمكن أن نحصي أو نتخيل. فتقليدياً كان كبار الملاكين يخافون تشتت الملكية وتفتيتها، فيما صغارهم لا يملكون الكثير أصلاً لتوزيعه، لتبقى الأرض حصة الذكور وأمانة في أعناقهم يتوارثونها عبر الأبناء دون البنات.

وفي حين يتواطأ الجميع حتى أيامنا هذه على سلب المرأة حقها (وهي بسكوتها أحياناً تشجعهم)، سواء حكم لها الشرع بنصف حصة أخيها أو حصة مماثلة له، يقتضي الفلكلور الشعبي أن يقدم لها الاقتراح، لترفضه ويرفضه معها زوجها فيتم ذلك السلب والحرمان بموافقة ومباركة منها شخصياً! وإذا ما تنطح الزوج لإعلان تنازله "هو" عن حقها "هي"، مستحضراً كرامة لا ترضى له شريكاً في الانفاق على بيته، سارعت الزوجة/ الابنة لتبرئة نفسها من احتمال قبول العرض أصلاً. فذلك أمر مفروغ منه.

أعد النساء اللواتي حرمن كلياً من حصصهن في الميراث. أعرف أسماءهن وقصصهن وكيف تنازلت كل منهن بطريقتها عما تعلم ضمنياً أنه لها بحجة العيب والسائد من الأعراف والتقاليد.
أعد النساء اللواتي حرمن كلياً من حصصهن في الميراث. أعرف أسماءهن وقصصهن وكيف تنازلت كل منهن بطريقتها عما تعلم ضمنياً أنه لها بحجة العيب والسائد من الأعراف والتقاليد.

أما الإنفاق على البيت والأسرة، الذي ستشارك فيه لاحقاً بلا أدنى شك فلا يعود جارحاً للكرامة إذا ما جاء من تعبها وراتبها. ذاك أنه حين يكون على المرأة أكثر مما لها، وتتساوى في الواجبات لا في الحقوق، تقبل شراكتها ويرحب بها بطيب خاطر. أما مساواتها في الأجر والرتبة الوظيفية والصلاحيات المصرفية وغير ذلك الكثير الكثير، فهو مكروه مذموم.

ولشدة تجذر العقلية البطريركية وسط النساء أنفسهن، وبعضهن ينتمين إلى أوساط مرفهة اقتصادياً، ومتعلمة ويفترض أنها منفتحة، قد تذهب الفتاة خطوة أبعد في الكرم ورحابة الصدر إذ تتنازل عن حصتها لأخت "كبرت ولم تتزوج". وغالباً ما لا تدرك الشابة التي تشعر بالإنجاز بأن تزوجت، إنها عملياً تتماهى مع سلوك ذكور العائلة إذ تبحث بدورها عمن هو أقل منها حظاً و"حصانة" لتمارس عليه كرمها.

والحال إنه شائع "منح" الفتاة التي "بقيت في البيت" على ما توصف، قطعة أرض تستثمرها كجائزة ترضية عن عدم الظفر برجل ينفق عليها، علماً أن احتمال البيع ليس دائماً متاحاً لها، إذ قد يعرض الأرض للقسمة ويجلب "غريباً" إلى جوار الأسرة. إنه مجرد استثمار مدى الحياة، لتعود الملكية بعد ذلك لمن "فيه البركة".

أعد النساء اللواتي حرمن كلياً من حصصهن في الميراث. أعرف أسماءهن وقصصهن وكيف تنازلت كل منهن بطريقتها عما تعلم ضمنياً أنه لها بحجة العيب والسائد من الأعراف والتقاليد. طعم بالمرارة وشعور جارح بتبرؤ الأهل يرافقهن مدى الحياة.. نساء كانت ظروفهن الفردية والأسرية لتغيرت جذرياً لو كان ثمة قانون يحفظ حقوقهن، بلا منة ولا جميل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.